نظراً الى وسائل الاعلام المتنوعة اليوم، لا يسعنا الا ان نقف ونفكر في آليات البث الموجه الينا نحن المتلقين ولنفكر عميقاً في مضامين المؤثرات الملقاة على كاهل ثقافتنا وتراثنا التي باتت مهددة اكثر من اي وقت مضى. فإذا نظرنا الى وسائل الاعلام نجد ان المحطات المحلية اصبحت في عداد النفس الاخير من حكم الاعدام. فعلى رغم ترهلها الذي كنا نركن اليه وننتقده الا اننا لا ننكر تنوع البرامج بين ما هو اخباري ورياضي وفني ودرامي وعلمي فيه كثير من الفائدة والمتعة. ولكن هذه المحطات اليوم مهددة اكثر من اي وقت مضى في سباق محموم بالمخاطر، او اذا أجزنا القول انها كالسلحفاة التي تتسابق مع أرنب يعدو بقوة نحو الفوز بالجزرة. والجزرة المشتهاة ليست الا ثمرة الفوز غير العادل الذي يخبئ في طيات حكمه حكايا وأسراراً لطاغوت صناع فن الاعلام للسلطة الرابعة وهي اصبحت اليوم وبلا منازع السلطة الأولى، التي تهرع للفوز في سباقات احتلال مركز الصدارة لاحتواء السلطات برمتها، السياسية منها والدينية والثقافية والفكرية. والجواب ليس معقداً اذا عرفنا ان الاعلام هو ما يجيز لنا التعبير عن المتنفس السياسي المحظور والمتنفس الديني اضافة الى المتنفس الفني الفالت من عقاله حيث تضطلع وسائل الاعلام في تكثيف صورة السياسي والديني الثقافي والفني في المحطات المشتغلة طوال اربع وعشرين ساعة. نعرف حينها اننا بلا شك متلقين متلهفين لاستيعاب كل ما خنق وعتم عليه بمرونة فائقة وزخم كبير في لهاثنا وتشوقنا للجزرة المشتهاة في حلبة السباق والتي تجري عمليات التحضير والتهيئة العقلية والفكرية لكل ما ينتج من هبات اعلامية واخبارية وسياسية وهبات فنية غنائية متصاعدة. ونظراً الى هذه الهبات الساخنة من الصورة الحية للمحطات الاعلامية السياسية نجدنا امام حدث اخباري ساخن وامام تحليلات سياسية متنوعة ومتفاوتة وامام نيات كثيرة متصارعة حيناً ومتناغمة حيناً آخر، متصارعة من حيث المواقف: أيهما أقرب أو أبعد من أميركا، في نقل الحدث والتعبير عنه والأبعاد المنوطة به ولمصلحته، ومتناغمة حتى ان مجمل وسائل الاعلام الاخبارية ساهمت وتسهم فلا ندري بجعل صورة الدم والقتل والعنف والألم والخلط بين ما هو مقاوم وما هو ارهابي، مجرد صورة تتراكم فتثقل مخيلتنا ومشاعرنا بالألم والغضب والغثيان والرفض والاستياء من الكمية المتزاحمة الى الاعتياد واعتبار كل ما نراه ويصل الينا عبر صورة الاقمار الاصطناعية من آلام في هذه الاوطان وخصوصاً في الوطن الفلسطيني المحتل امراً عادياً. ما نسمعه عن مقتل المئات في الجزائر خبر ساري المفعول لا مجال لرد بكرة العنف فيه في الشريط الاخباري المكتوب في أسفل الصورة الدامية للانفجارات الحاصلة في العراقوفلسطين والموت بالجملة في تيمور واسبانيا وغيرها. اصبح اليوم تزاحم الصورة وتراكم الحدث واستيلاء مشهد الدم على الشاشة امراً عادياً يثير النفور حيناً ويثير الرغبة في الاسترخاء حيناً آخر للنزوع الى ضغط زر التحكم عن بعد والذي سرعان ما يزيل عن مشاعرنا مشاهد القتل والدم والهدم والتشرد في فلسطين والجدار العازل الذي اصبح يشاهد اليوم كجدار كرتوني وهمي لا يعنينا بشيء. المعاناة تكبر وحجم التماهي مع المعاناة يتضاءل ويصغر حتى اصبحنا نرى كل شيء بدم بارد كفيلم كرتوني او كفيلم هوليوودي شديد العنف والسرعة. دمعات الامهات وصراخ الثكالي وتغضن وجه العجوز، ملامح لصور تلفزيونية تثير شفقتنا حيناً، ولكننا مع كل ذلك لا نستطيع الا ان نأكل ونمارس الحياة في شكل طبيعي وكأن شيئاً لم يكن، وكأن مساحة الحوار الساخن من محطات الاخبار التي جاءت لتنشر الحقيقة وتعريها وتثير حفيظة الانسان العربي لتغير وضعه وظروفه مجرد لقطة درامية تمثيلية تنتهي بانتهاء الحلقة. مشاعرنا التي كانت تنوء بالغضب اسكنتها ريح الهبوب المقبلة من محطات الاخبار السياسية المتلاحقة والمتزايدة، فالتوقيت محسوب بدقة ومن دون مرجعية ذهنية او تراثية اصبح الكتاب والصحيفة عدوين لدودين لجمالية الصورة والمذيعة والمراسل وغيره. فالسيولة الثقافية والفكرية المجتزأة، التي تأتينا عبر الاقمار سهلت علينا مهمة أو عناء طيات الحقيقة الضائعة بين السطور. في عالم الصورة والبث الصناعي العجيب اصبحنا نستسهل كل شيء ونستسيغ كل شيء ونستجيب لكل شيء، اصبحنا في دوامة المسلسل الدرامي المشوق" اخبار سياسية عنيفة الى اخبار فنية مهمة عن حياة فنان هنا وفنانة هناك، وكم من الاعمال الفنية المتزامنة والمصدرة بكميات هائلة كزحف الجراد. فكل يوم فنان جديد و"فيديو كليب" جديد بفضل القائمين على المحطات الاعلامية الفنية من "روتانا" و"ميلودي" و"ميوزكانا" وغيرها من المحطات الفنية. محطاتكهذه أضاعت جهود من يعتنون بالفن الحقيقي، أضاعت الكلمة واللحن والصوت لمصلحة الصورة والفتيات الراقصات المزركشات والمغنين والشهرياريين الذين لا ينعمون بثقل او هم سوى الالتصاق بفتيات جميلات وديعات يأنسن لعتب المغني ودفق أدائه المحموم، اضافة الى فنانات العهد الجديد الذي اصبح من الافتراء تسميتهم بفنانات او مغنيات. فالأداء العاطفي المشبوه لا يذكرنا الا بما كنا نسميهم سقط المتاع الأبيض، مهما اختلفت التسميات والأزمنة الا اننا لسنا الا مستهلكين مجانين لما يعرض علينا من فتيات وصور وأخبار وتحليلات. وساهمت المحطات الاعلامية بمجملها بتركيز مواردنا المالية، فبدلاً من الذهاب الى المكتبات والبحث عن دواوين الحقيقة اصبحت تلك المحطات بلا منازع الأب الحنون الذي يقدم كل شيء على طبق من فضة، ونحن الجالسين في بيوتنا مجاناً وبلا اشتراك كبعض اشتراك افراد المجتمعات الأوروبية في المحطات المتخصصة. في سياق ما أورد من نقاط سأطرح سؤالاً علينا جميعاً نحن فرائس وسائل الاعلام: ما سر سخاء الوسائل الاعلامية؟ من هم الممولون الحقيقيون لإنتاجاتها؟ اذا ما عرفنا بعضهم سنعرف كل الحكاية، فمن حيث نسرد البداية تتضح خاتمة الحكاية! سأذكر البداية وسأدع سرد الحكاية وخاتمتها عليكم أنتم العارفين انه في بداية الانتفاضة الثانية 2001 سارعت المحطات الاعلامية الى تلقف الحدث. فسرعان ما ثار الانسان العربي من المشرق والمغرب وثار معه الانسان المحب للانسانية والعدالة في أوروبا واليابان واستراليا وحتى أميركا. حين عرف المراقبون الاعلاميون سر تأثر الشباب في العالم بمدى تأثير الوسائل الاعلامية على عقولنا ومشاعرنا، وحينما شوهد العلم الأميركي والعلم الاسرائىلي في عداد المعدين للإعدام سارع الممولون الى انقاذ هذين الرمزين الاستعماريين في العالم باختلاق محطات فنية وبكميات هائلة خدرت الشباب الغاضب الذي كان البارحة وقبل عامين فقط يصرخ بوجه العلم الأميركي اصبح اليوم وبلا خجل يرفرف بفرح ونشوة في "سوبر ستار العالم". وهكذا اصبح النموذج الاميركي المنفتح على المنافسة والربح والاحلام الواهية هو نموذج للشباب العربي. ولا شك في ان هذه المحطات والبرامج مميزة بكوادرها الاعلامية، الفنية والتقنية، مميزة جداً ولكن في تميزها هذا تكمن الحقيقة واسرار الحكاية وتكمن المقولة: "انه كطعم السم بسكر" ويقيناً اننا اذا عرفنا وتعمقنا في هذه المقولة عرفنا نهاية الحكاية.