صدمتني مداخلة تلفزيونية مع السيد عمرو أديب من مواطنة مصرية شابة كما بدا من صوتها المتهدج الصادق، وهي تشكو من معاناتها وكل هذا الجيل المظلوم من جراء الضغوط النفسية الصعبة القاسية التي يعيشها بسبب الأزمات المتراكمة منذ ما يزيد على نصف قرن من دون أن يبدو في الأفق بصيص ضوء يبشر بانحسار هذه الأزمات، بل تفاقمها وتسارعها بوتيرة لا تدع مجالاً لالتقاط الأنفاس. فمنذ نكبة فلسطين وحتى الآن توالت الحروب والأزمات الحادة في العالم العربي بدءاً من الحرب الأولى في فلسطين ثم حرب السويس 1956 ومن بعدها النكسة 1967 ثم حرب العبور 1973 وما تلاها من انقسام في الصف العربي بعد اتفاق كامب ديفيد وانتقال جامعة الدول العربية من مقرها في القاهرة الى تونس الى حين عودتها إثر الغزو العراقي للكويت الذي نتج عنه مجدداً انقسام آخر أكثر حدة، ناهيك عن الحرب بين العراق وايران في الثمانينات وصولاً الى الاعتداءات الدامية في فلسطينالمحتلة والتي تصاعدت شدتها في السنوات الأخيرة الى أن حدث الهجوم الصاعق على مركز التجارة العالمية في نيويورك والبنتاغون في واشنطن وما نتج عنه من حرب في افغانستان ضد"طالبان"و"القاعدة"والتي لا تزال توابعها حتى الآن. ولم يفق العالم من تلك الدوامة حتى استفاق على الحرب الكبرى ضد العراق التي قادتها الولاياتالمتحدة وبعض حلفائها، حيث لا تزال آثارها تشغل العالم خصوصاً دول المنطقة الموعودة بهذه النكبات. تلك صورة حقيقية لما مر على المنطقة من احداث متلاحقة انعكست على نفسية كل مواطن عربي سواء من جيلنا او من جيل الوسط او الجيل الجديد فالكل في الهم سواء. وكان الجميع وهم يشكون ويبثون همهم الى الله يتطلعون الى القادة العرب ان يعوا مسؤولياتهم ويحاولوا وضع حد لهذه المعاناة واطلاق مبادرات جادة توحي بالامل في انتهاء هذا الكابوس الضاغط، لكن للأسف حدث ما حدث في قمة تونس فكفر الكثيرون بما يسمى العمل العربي المشترك، ومنهم تلك المواطنة المصرية التي عبرت بصدق عن المشاعر التي تسود معظم المواطنين العرب صغيرهم وكبيرهم، لكن على الاخص الجيل الجديد الذي يجد صعوبة شديدة في استيعاب ما يحدث لأمتنا العربية التي توصف بالمجيدة من دون ان يجد مبرراً مقنعاً لهذا الوصف الجميل. لا أزعم انني هنا أحاول ايجاد الحلول اللازمة لكل هذه الازمات والمشاكل التي فرضت علينا والتي أضحت خبزنا اليومي نتجرعه كسم زعاف. بل هي محاولة متواضعة لتسليط الضوء على الآثاء المدمرة لتلك الضغوطات النفسية على حياة الملايين من المواطنين العرب، لا سيما الجيل الجديد، والتي انعكست على اسلوب تفكيره، فانتهكته وأثرت على نمط حياته، فضاع وفقد توازنه وهو يتلمس طريقه الوعرة للنجاة من هذه الدوامة المستمرة والضاغطة من دون ان يجد للاسف من يحاول انتشاله من هذه المعاناة ويدله على طريق الخلاص، فوقع في هوة التناقضات والانقسامات والأزمات العربية المتلاحقة. وفي ظل هذه الدوامة حاول بعض ابناء هذا الجيل الاعتماد على قدراته الذاتية بعدما تخلى عنه الكبار وكانت النتيجة: 1- شباب نأى بنفسه عن تلك التناقضات والضغوطات ونجح في تحقيق ذاته وتجاوز سلبيات المرحلة، وهم لحسن الحظ الغالبية وهم أمل المستقبل الذي سيتسلم الراية لمواصلة المسيرة. 2- شباب شعر بحدة تلك التناقضات والفراغ العقائدي وانعدام الهدف الواضح،وفي غياب التوجيه التربوي في المدرسة او الجامعة او في وسائل الاعلام او الفكر الابداعي الذي ظل للأسف حبيس نخبويته فلم يتفاعل التفاعل المطلوب لتوجيه الشباب وتقديم الحلول المناسبة لمشاكلهم فكانت النتيجة ان لجأ البعض منهم وتحت تأثير فئة من المتطرفين اصطادت بالماء العكر فقدمت لهم البديل الذي كان البعض يبحث عنه تحت زعم احياء فريضة الجهاد وتجديد العقيدة وتنقيتها من الشوائب ومحاربة"الكفار"وانشاء دولة الخلافة... الخ، فحدث ما حدث، وأصبحنا نواجه ظاهرة دخيلة أضرت بالأمتين العربية والاسلامية أيما ضرر، وأضحى الاسلام متهماً بالارهاب، ووقعنا ضحية ردود الفعل الغربية، وأصبحنا هدفاً لما يطلق عليه مشاريع الاصلاح والتحديث والحرب ضد الارهاب. 3 اما الفئة الثالثة من هؤلاء الشباب، فقد وجدت طريقة للخلاص من هذه التناقضات والمعاناة في نهج العلمانية والحداثة بما يشوبها من سلبيات ونزوع للتحرر من الثوابت الدينية... ناهيك عن انحراف البعض والوقوع في بؤرة الفساد والمخدرات وتلك لعمري مصيبة أخرى نجمت عن تلك الضغوطات النفسية التي يعاني منها هذا الجيل. لقد وعدت في سياق مقالي هذا بعدم الغوص في خضم الحلول للخروج من هذه الأزمة المستحكمة والمتفاقمة، لأن ذلك، وللأمانة، يفوق قدراتي المتواضعة، وانما هي محاولة صادقة لقرع جرس الانذار. ولعل القادة والمسؤولين العرب يعوا خطورة هذه المشكلة ويتداركوا الأمر قبل فوات الأوان، ولا شك ان ثمة مسؤولية مشتركة تقع على رجال الفكر والمصلحين التربويين والاجتماعيين لمساعدة القيادات في مهمتها الصعبة هذه... ارجو ذلك. * ديبلوماسي سابق.