من الممكن تقسيم الأجيال العربية المعاصرة الى ثلاثة: الجيل الأول عايش مرحلة الاستقلال التي كانت في أوجها في بداية القرن العشرين، والثاني عايش فترات المواجهة مع "بقايا" الاستعمار ومواجهة الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وتوسعاتها وممكن أن يطلق عليه "جيل الثورة"، وأخيراً الجيل الحالي الذي صدم وتمزق في عقائده وأهدافه وقياداته ومجتمعاته وهو ما يمكن أن يطلق عليه "جيل الشك". و"جيل الشك" هذا نتيجة افراز معقد لسلسلة من السلبيات والصدمات منيت بها المنطقة، خصوصاً هذا الجيل، كانت حصيلته مخاوف وانعدام ثقة وسلبية في الفكر والسلوك، وكان ذلك في صور من الشك في سياسات قادتهم وتوجهاتهم والفساد المتفشي في المجتمع وقصور كبير في الأداء الاداري والتعليمي والخدماتي وهجرة الأدمغة الجماعية للغرب. وسط هذا الجو المتشائم والتحديات الهائلة كانت نداءات مختلفة تخرج من جهات متعددة تدعو لاتجاهين: ديني أو علماني، وهذان الاتجاهان سرعان ما كونا جمهوراً من التابعين في أقطار عدة، الا أن التناقضات الكبيرة التي حدثت في قيادات الاتجاهين وشعاراتهم سرعان ما أصابت أتباعهم بالاحباط. وكانت هناك صور مختلفة للاحباط. فمن اعلان دولة اسرائيل الى التسلط والحكم الديكتاتوري لدعاة التصحيح والاصلاح وغياب موضوعيتهم، ولجوء التيار الاسلامي للعنف والارهاب، وهزيمة 1967، وحرب العراق وايران، وغزو العراق للكويت، واستمرار التنازل في فلسطين وفشل مشروع السلام الشرق الأوسطي. وهنا يظهر سؤال مهم على السطح يحتاج الى ايجابية: هل من الممكن ايجاد توجه مثالي يخرج المنطقة من الدوامة. وللاجابة عن هذا السؤال لا بد من أن نعود بنظرة سريعة للوراء ونوضح أن الحلول التي تستند فقط على مرجعية تاريخية تكون نوعاً ما منقوصة. والأفكار والدعوات المعاصرة لن تستطيع أن تصمد في نهاية المطاف، الا بما فيها من مضمون واقعي حيّ قادر على البقاء ومواجهة التحديات الماثلة واستيعاب مستلزمات العصر، لا بما تحاول الاستناد الىه من خلفيات تاريخية ونماذج منتهية عاشت عصورها واستنفدت مضامينها وانتهت الى ما انتهت اليه من خير وشر ونجاح واخفاق، فلا القومية العربية تمكنت من الصمود في وجه التعدي الاسرائيلي، باستذكار فتوحات عبدالملك بن مروان، ولا الحركات الثورية انقذتها ذكريات القرامطة في تعاملها المخفق مع الواقع العربي والدولي، ولا الدعوة الدينية ستهب لنجدتها جيوش سليمان القانوني والسلطان عبدالحميد، أو اسماعيل الصفوي. ومن ناحية أخرى أثبتت تجارب الأمم في الماضي والحاضر أنه لا يمكن استعادة عصر من العصور في عصر آخر وزمن آخر ومرحلة تاريخية وحضارية أخرى، مهما كانت طبيعة ذلك العصر وجاذبيته العاطفية لقلوب المعاصرين وشدة تأثيره عليهم وقوة انتمائهم اليه. فاليوناني المعاصر دائم الحنين والتشوق الى عصر أثينا وأمجادها وزمن قائدها الديموقراطي الفذ بركليس وصحائف فلاسفتها. لكن اليونان الحديثة شيء مختلف عن اليونان القديمة، وقد يتمكن اليونانيون المحدثون من احداث منجزات جديدة، عظيمة أو متواضعة، لكنهم لا ولن يتمكنوا من استعادة التاريخ الاغريقي والهليني بصورته الأصلية. وان اصروا على استعادته فستكون الاستعادة صورة باهتة للصورة الأصل، لسبب أساسي هو أن أي عمل تاريخي عظيم لا يمكن تحقيقه بالاعتماد على التقليد، تقليد عمل عظيم سابق، أو تقليد عظماء سابقين. العمل التاريخي العظيم يستوحي الروح والجوهر في ما سبقه من أعمال وتجارب، لكن عظمته تكمن في أنه ليس تقليداً لأي عمل سابق بعينه. عظمة صدر الاسلام عظمة صدر الاسلام أنه كان عصراً جديداً وتحولاً نوعياً في التاريخ ليس كمثله عصر في ما سبق من أزمان. وعظمة الفجر الاغريقي أيام بركليس وأرسطو والاسكندر أنه كان صفحة جديدة كل الجدة في التاريخ الأوروبي والعالمي. أما محاولات التقليد التاريخية فلا تنتج الا صوراً باهتة هزيلة لا تلبث أن تمحي من سجل الوجود. في المقابل فان امماً جديدة، كالأمة الأميركية، انطلقت بلا تاريخ سابق ولا تقليد لأي عصر قديم من عصور التاريخ، فحققت لنفسها بالاعتماد على طاقاتها الحية المعاصرة ما لم تحققه أمم أخرى لنفسها وهي تحاول وتحاول تقليد صورها التاريخية القديمة المتوارثة. ولما تطورت الأوضاع الدولية وأصبح تطبيق القانون وترتيب حقوق الانسان من الأسس الرئيسية، أصبح تدخل الهيئات والمنظمات العالمية في أمور تخص سيادة بعض الدول من الأمور المقررة للحد من استبداد الحاكم بالمحكومين، ومن وقوع اضطهادات عنصرية أو دينية، وتأسيس نظام قانوني يتفق مع القواعد العالمية، ويمنع رغبة الحاكم المطلق من أن تكون البديل من ارادة شعب بأكمله. ولأن هذا الوضع هو أساس الشكوى من المساس بالسيادة فانه يستدعي تفصيلاً وتوضيحاً، ففي العهود الماضية لم يكن هناك شكل دولة، كما هي معروفة اليوم، باستثناء مصر وبلاد ما بين النهرين التي تتالت عليها دول كثيرة ككلدانيا وأشور وبابل، أما في بقية العالم، فكان الوضع أشبه بنظام القرية، أو على نسق القبيلة كالأمة أو الجماعة. وفي القرن الثامن عشر ازداد اتباع نظام الدولة الوطنية التي يطلق البعض عليها دولة قومية أو دولة قطرية. وعندما بدأ هذا الأسلوب يطغى في معظم الدول الحديثة الخبرة به، أخذته شكلاً ورفضته أسلوباً، ذلك أنه كان من الواجب التحول اليه تحولاً صحيحاً، أن ترتكز الدولة وتبني وتعول على حكم المؤسسات وعلى الأنظمة وعلى القانون، ولكن، اذا استمرت بالطريقة البدائية أو بالاسلوب القبلي، فانها بهذا تكون دولة بالمسمى فقط وقرية أو قبيلة واقعياً، يدير أمورها كلها فرد واحد ذو سلطة مطلقة، ويغلب على سلطتها الأسلوب الفردي، والطابع الشخصي وتتمكن فيها المصلحة الخاصة، وهو ما يؤدي يقيناً الى خلخلة النظام واختلاف الأمور وزعزعة الوضع، ما يؤدي الى فوضى واضحة بالاضافة الى الدكتاتورية في شكل الحكم والسلبية والفردية في وضعية الشعب. هذا الأمر يسود في معظم بلدان العالم الثالث وتمكن من غالبية زعامتها فدمجوا الحكم والدولة في شخصهم، مما يلغي الشعب تماماً، فلا تكون له سيادة أو الارادة في أوطانه، ولا يستطيع المساهمة في صناعة القرار. ويدعي الحاكم الفرد المطلق ان المواطن والشعب والأمة هم القائد وأنه مجرد ملهم، في حين أن حقيقة الأمر تقول إن المواطن مسير وليس قائداً أو زعيماً وانه مهمل منسي وليس ملهماً، وكثيراً ما يحدث مع هذا الهوس والضلال أن يدخل الديكتاتور في مغامرات غير محسوبة لأنه غير قادر على الحساب من جانب ولأنه يقامر بمصائر غيره من جانب آخر فيجري في المقامرة من دون تقدير العواقب معتقداً أن نتائج المقامرة تكون بفضله ان كانت نصراً، ويحمّل القدر والظروف والمؤامرات الخارجية المسؤولية ان كانت هزيمة، في الوقت الذي تتهرأ فيه وتذبل وتموت قطاعات الدولة لأنها لم تبن على قاعدة من النظم فيستشري الفساد فيها ضارباً والعجز فيها نمطا والهوان فيها اسلوباً. ويعول الشعب العربي كثيراً على العولمة في فرض تغييرات على مجتمعاتهم بالجبر بعد ان مضت السنون وهم بانتظار التغيير بالاختيار . واهم الاختيارات المطلوبة تأخذ الطابع الاقتصادي والاجتماعي والقليل السياسي بشكل رئيسي. وأهم المطالب تطوير نظام الخدمات العامة كالتعليم ومناهجه. فغير خاف ان نظام التعليم العربي يعاني مر المعاناة من تخلف في المناهج عن ركب الاحتياج العلمي العالمي الفعلي ورداءة البنية التحتية من جامعات ومدارس، وبالتالي خروج الطالب العربي لسوق العمل من دون تأهيل مناسب، كما ان نسبة الامية لا تزال تتراوح بين 50 الى 60 في المئة كمعدل عام في المنطقة العربية، وهذا رقم عال يعيق فاعلية خطط التنمية. والشيء نفسه يقال عن الخدمات الصحية وترديها وتفشي الاوبئة والامراض بشكل يفوق المعدلات التقليدية، أما عن القضاء وما يحدث فيه من انقاص للحقوق والتداعيات والتهاون في تطبيق الاحكام وتنفيذها، فأصبح عاملاً محبطاً يؤدي الى تدهور التنمية. ويركز علماء الاجتماع على فقدان القدوة الصالحة في القيادة سواء الاسرية او الادارية والتناقض الكبير بين ما يدرَّس وما يدعى اليه في الخطب الدينية وما يصرح به رسمياً وبين الممارسات الفعلية. ولندرة التغيير الفعلي وتحوله الى شعارات صوتية ومكتوبة ولحال اليأس التي تدب بقوة في اجيال الشباب اصبح الأمل معلقاً على حركة العولمة لإحداث التغيير المطلوب ، فإذا كان من شأن العولمة ان تعين الامم على الحصول على سيادتها من يد الطغاة وتنظيم امورها على قواعد علمية، وتمكين الحكم بالمؤسسات الشرعية في سلطة تشريعية صحيحة وسلطة تنفيذية ذات علم ودراسة ونظام تعمل على قاعدة من التخطيط الصحيح والعلمي. فما الخطأ في ذلك؟ ومن الذي يتضرر من مثل هذا التطور العظيم والانجاز الهائل الذي لا بد من ان يؤدي الى نهضة الشعوب؟ * كاتب سعودي.