هل شاهدتم جورج بوش متحدثاً إلى عصابة"ايباك"؟ كان بالغ الود والانشراح، بين أهله وعشيرته، في كنف اللوبي اليهودي. ألقى قصيدة في حب إسرائيل، ذرف الدموع على ضحاياها، أطلق أبواب الاشادة بانجازاتها. لم يخطر في باله في تلك اللحظة أن مجزرة جديدة كان الإسرائيليون قد ارتكبوها في رفح. عشرون شهيداً في صبيحة واحدة لم يستحقوا من الرئيس الأميركي أي التفاتة، أي محاولة لاحترام إنسانيتهم. لم يكونوا إرهابيين. كانوا مجرد بشر في هذه المدينة التي يريدها ارييل شارون أرضاً محروقة. المهم بالنسبة إلى بوش أن يضمن مساندة"اللوبي"في معركته الانتخابية. لا، لم يكن العراق حاضراً أيضاً في هذا اللقاء بين الحلفاء. حتى أميركا لم تكن حاضرة هناك. إنه في حملة انتخابية، نعم، ليكون رئيساً للولايات المتحدة لولاية ثانية، لكن البقاء في البيت الأبيض يتطلب المرور عبر إسرائيل، عبر"اللوبي". كل شيء على ما يرام طالما أن إسرائيل تمضي في إرهابها، طالما انها لا تزال تقتل وتدمر. جورج بوش ليس فقط الرئيس الأكثر انحيازاً لإسرائيل، بل انه الأكثر تماهياً معها، حتى أنه جاء إلى الرئاسة بأجندة واضحة هدفها احتلال العراق. إنه ذروة الاقتراب من إسرائيل، بقيادة الجنود الأميركيين إلى الدرك نفسه الذي غرق فيه الإسرائيليون. على رغم الاعتذارات والتأسفات، والتحقيقات المفتوحة، لا تبدو فضيحة التعذيب، بكل ما كشفته من تواطؤ على أعلى مستوى ومن انزلاقات لاأخلاقية، قد غيّرت شيئاً في العقل العفن الذي أدار الحرب ويدير الاحتلال ولا يزال يدير السجون بالأساليب نفسها، لكن هذه المرة من دون كاميرات، مع كثير من الحذر والسرية، ومع اعتماد أكبر على عراقيين وظفوا أنفسهم عند قوة الاحتلال. أدخلت قضية التعذيب إلى دهاليز الإدارة، لتعالج باللفلفة على الطريقة الإسرائيلية. وفي أي حال، الكثير الكثير من وسائل العمل الأميركية"تأسرل"شيئاً فشيئاً ليفقد أي ميزة لدى جنود ينتمون إلى دولة عظمى وليس إلى مجرد عصابة إرهابية. كان بوش، في اطلالته على"ايباك"، معبراً عن العمق الإسرائيلي البحت لإدارته، فكراً وعملاً. خطا الأميركيون خطوات كبيرة نحو تحضير المسرح العراقي لحرب أهلية. ضربوا موعداً مع الإرهاب لمواجهته على هذه الأرض النازفة أصلاً والمتعبة. تركوا التمايزات المذهبية والعرقية تتصاعد إلى أقصاها ولم يولوا أي اهتمام للانعكاسات السيئة على تعايش فئات الشعب العراقي. تدخلوا بالضغط والترهيب والابتزاز لتحديد أحجام هذه الفئة أو تلك في نسيج الحكم المقبل، أو لتوزيع الامتيازات عليها. تورطوا وورطوا فئات عراقية في النزاعات التي افتعلوها أو استفزوها وحركوها من بغداد إلى الفلوجة إلى النجف وغيرها... كل ذلك استعداداً ل"نقل السلطة"إلى سلطة يكيلون لها من النعوت والأوصاف ما لا يوحي بأنهم يكنون لها أي احترام، وهي من صنعهم وعجينتهم. كأن هذه الممارسات تشبه - مع بعض الفوارق الشكلية - مشروع شارون للانسحاب من قطاع غزة وكل همه أن يشعل حرباً أهلية بين الفلسطينيين. فمثل هذه الحرب وحدها تعطي قوة الاحتلال إمكان أن تبدو كأنها قوة الفصل"الشرعية"بين المتقاتلين. الأميركيون يبحثون عن هذا الدور وهذه"الشرعية"ويتعجلون موعد تسليم السلطة استعجالاً لتوريط الأممالمتحدة وللتمتع بغطائها. لم يتطرق بوش إلى مشاكل مستنقعه في العراق، ولم يشأ أن يعكر صفو اللقاء مع"ايباك". لقد اكتسبت قواته بسرعة"الخبرة"الإسرائيلية في الاحتلال، وباتت مستعدة للبقاء لسنوات طويلة في العراق. بعد 30 حزيران يونيو لن تعود قواته"محتلة"، باعتبار أن قوات"التحالف"ستصبح"قوة متعددة الجنسية"بقيادة أميركية لكن تحت مظلة الأممالمتحدة. لم تكن"الضمانات"التي أغدقها بوش على إسرائيل - شارون سوى اعتراف أميركي رسمي بأن الاحتلال الإسرائيلي مجرد وجود اضطراري في الأراضي الفلسطينية... وهكذا تتبادل الاحتلالات الخدمات والذرائع بحثاً عن شرعيتها.