لا خلاف بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني على أن مرحلة ما بعد"وعد"بوش لشارون شديدة التعقيد ولا تزال في طور التشكل والتكوين. وان بقية مرحلة بوش شارون تحمل في طياتها أخطاراً كبيرة تمس المصالح الفلسطينية العليا. وحماية هذه المصالح في هذه المرحلة الصعبة تتطلب حنكة سياسية تستند إلى صلابة مبدئية. وإن تباين أطراف النظام السياسي الفلسطيني في تقييمها وتحديد أشكال النضال الملائمة أمر طبيعياً. وإذا كان خيار رفض مشروع الفصل احادي الجانب الشاروني يزيد في الخسائر الفلسطينية، فالخضوع لإرادة سيد البيت الأبيض والتسرع في قبوله لا يقللها. وفي سياق البحث في الخيارات المطروحة وتحديد الخيار الأسلم، لا بد من تأكيد أن التحليل المبني على نظرية المؤامرة يضر ولا ينفع. وأختلف مع الرأي القائل أن شارون ذهب للاستفتاء وهو ينشد الفشل ضمن خطة هدفها التنصل من خطته بعدما حصل على الضمانات الأميركية. وأعتقد بأن شارون كان يرغب في الحصول على نتيجة تعزز موقعه في العلاقة مع بوش وداخل الائتلاف الحكومي. لكنه تلقى صفعة من تلاميذه الذين رباهم على التطرف العنصري ومن المستوطنين الذين شجعهم على استيطان قطاع غزة واحتلال تلال الضفة. واظن أن المبالغة والتطير والتطرف، يميناً أو يساراً في قراءة خطة شارون وقراءة"وعد"بوش والضمانات التي قدمها للاطراف الثلاثة، إسرائيل والاردن والسلطة الفلسطينية، تقود إلى رسم توجهات خيالية تلحق أضراراً فادحة بالمصالح القومية العليا. وأرى ان اعتماد وجهة نظر قوى الرفض الفلسطينية التي تم توضيحها في الحلقة الاولى يندرج في خانة التطير ورد الفعل المتطرف، ويسهّل وصم النضال الفلسطيني العادل بالارهاب، كما يضع الأهداف الفلسطينية في مهب رياح التطورات الدولية والمتغيرات الاقليمية، ويضعف موقف الفلسطينيين في المحافل العالمية ويعطل قدرة الاشقاء والاصدقاء على دعم حقوقهم العادلة ومطالبهم المشروعة. صحيح ان النضال الفلسطيني وضمنه العمل العسكري في عهد منظمة التحرير الفلسطينية أجبر القيادة الإسرائيلية على الجلوس مع ممثل الشعب الفلسطيني، وأن الانتفاضة الثانية المسلحة والعمليات الاستشهادية أجبرت شارون وقطاعاً واسعاً من اليمين الإسرائيلي على التخلي عن فكرة بناء إسرائيل الكبرى والتفكير في اخلاء مستوطنات قطاع غزة وبيعها في مزاد علني دولي، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الانجازات لم تغير في خلاصة تجربة عمرها نصف قرن أكدت أن الحل السياسي والمفاوضات هما اقصر الطرق وأنجعها لتحقيق الحقوق الفلسطينية، وأن الحروب الكلاسيكية والعمل الفدائي والتقليدي و"الانتحاري"لم يحل النزاع وكان دوماً ميدان شارون واليمين الاسرائيلي المفضل. وإذا كانت القوى الرافضة للحلول السياسية تخشى الوقوع في فخ عملية احتيال ونصب سياسي إسرائيلية أميركية، فالدعوة إلى التصادم مع الإدارة الأميركية وإعلان الحرب ضد توجهات سيد البيت الأبيض في وقت يحاول الجميع تجنب شره يزيد في عذاب الفلسطينيين، ويزيد عدد الشهداء والأرامل واليتامى من دون نتيجة. ولا أظن أن قوى المعارضة تفكر في عمل عسكري من الحدود العربية. وبصرف النظر عن النيات، تعكس المناداة باعتماد الكفاح المسلح وتصعيد العمليات"الانتحارية"في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وبعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك وقيادة الولاياتالمتحدة حرباً عالمية على الإرهاب، وتعكس ذلك عدم استيعاب المتغيرات الدولية والإقليمية بصورة موضوعية ويعبر عن حالة يأس تقود إلى الانتحار. والدعوات الأخرى من نوع حل السلطة واستقالة الرئيس عرفات وإعادة الأمانة إلى المنظمة ، أو الإعلان من جانب واحد قيام الدولة فوق جميع الأراضي التي احتلت العام 1967... الخ من الأفكار تعكس حالة من الانفعال والتخبط والتفكير الارادوي غير الواقعي، وأقرب إلى معاقبة الذات"وفش"الخلق، نتيجته الأكيدة تعميق المأزق وتوسيع جبهة الخصوم وتسهيل طريق شارون لتنفيذ مخططه التوسعي. إلى ذلك، يخطئ أنصار الخيار الثاني، في الموافقة على خطة شارون والتجاوب مع الرغبة الأميركية، إذا ناموا على حرير رسالتي الضمانات للملك عبدالله الثاني و"أبو علاء"عندما يلتقي رايس، وإذا اعتقدوا بأن التعامل مع مشروع شارون باعتباره حلاً مرحلياً قابلاً للتعديل والتطوير أمر ممكن، وقبوله يفك الحصار المضروب على القيادة الفلسطينية ويكرس دورها من جديد في صناعة السلام. وليس عاقلا من يتصور أن"وعد"بوش المشؤوم لشارون ومباركته جدار الفصل يبقيان مجالاً لعملية سلمية تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية. لقد بنى شارون مشروعه على قاعدة تدمير الاتفاقات السابقة ونسف خريطة الطريق والتحلل من التزاماتها، وتدمير عملية السلام وفرض الحل الذي يريد من جانب واحد ومنع قيام دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة، وحشر الفلسطينيين في كانتونات محاصرة ومقطعة الاوصال. وإعلان القيادة الفلسطينية موافقتها على مشروع شارون لا يغير في موقف صاحبه ولا يعطل أهدافه، ونتيجته الأكيدة إلحاق أضرار استراتيجية بالحقوق والمصالح الفلسطينية. واصرار شارون وأركانه على الانفراد بالحل ورفض إشراك قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة في نقاش المشروع وتنفيذه ليس بسبب تطرفها وعدم محاربتها للارهاب كما يدّعون، بل لأن شارون يتمسك بمشروعه كما هو ويرفض تعديله وتقريبه من التوجهات الفلسطينية. ويبدو أن المستوطنين والمتطرفين في حزب ليكود هم وحدهم القادرون على ارغام شارون على تعديل مشروعه وتقريبه من اهدافهم العنصرية. وفي سياق بلورة الخيار الأسلم، خير للفلسطينيين والعرب التدقيق في مواقف بوش طوال فترة رئاسته وليس في أقواله في المؤتمر الصحافي مع الملك عبدالله، وأن لا يتوقفوا امام تصريحات الوزير باول الترقيعية. فضمانات بوش لشارون ليست غلطة رئيس كثير الأخطاء تم تصحيحها، بل تحول استراتيجي خطير في السياسة الأميركية إزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والعربي الإسرائيلي. وإذا كان الراعي الأميركي لم يبحث في أمر مشروع شارون مع الجانب الفلسطيني، ولم تفلح القيادة الفلسطينية في فرض نفسها طرفاً في صياغته وتنفيذه ولا أفق تعديله، فالمصلحة الوطنية العليا تفرض رفضه جملة وتفصيلاً، ومواصلة التمسك ب"رؤية"بوش وبخريطة الطريق وجداولها الزمنية. كذلك رفض إلغاء أو تعديل الاتفاقات السابقة، والإصرار على أن تتضمن رسالة التطمينات للفلسطينيين التزام ادارة بوش قرارات الأممالمتحدة المتعلقة بالحل النهائي وبخاصة الحدود واللاجئين والاستيطان، وتجديد التزامها قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة اسرائيل في العام 2005. إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى أن لا أحد يستطيع الجزم بان تمسك الرئيس الأميركي بخطة شارون بعد فشله في الحصول على دعم غالبية ليكودية، يعني أنها باتت قدراً لا مرد له، وان شارون سيتحدى نتيجة الاستفتاء ويشرع في تنفيذها. خصوصاً أنه ربط إخلاء المستوطنات وإعادة انتشار وحدات الجيش بالتفاهم مع أطراف الائتلاف الحكومي أو بناء ائتلاف حكومي بديل إذا تعذر التفاهم، وثانياً الحصول على مبلغ مالي كبير لا يقل عن 3 ملايين دولار لتعويض المستوطنين وبناء ثكنات جديدة للجيش. وإذا كان تحقيق الشرط الأول ممكناً فإن تحقيقه وحده لا يلبي الغرض، بل يبقى التنفيذ العملي معلقاً بانتظار تلبية الشرط الثاني المؤجل إلى ما بعد الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. ويرجح ان يبلع شارون صفعة الاستفتاء موقتاً بانتظار فرصة مؤاتية يرد فيها الصاع صاعين لنتانياهو ومن طعنوه في الظهر. وقد يحاول استثمار نتيجة الاستفتاء في تعديل خطته لمصلحة المستوطنين، واشغال الجميع من الآن وحتى الانتخابات الأميركية بالحديث عن تعديلات في الخطة وجداولها الزمنية. لا شك ان فشل بوش في الانتخابات بسبب الخسائر البشرية والمادية الأميركية في العراق أو لسبب داخلي أو خارجي آخر، ستكون له انعكاسات مباشرة على مشروع شارون، أهمها تأجيل تنفيذه واحتمال استبداله بمشروع كلينتون الذي طرحه قبل أسابيع قليلة من رحيله من البيت الأبيض. ومن الآن حتى الانتخابات الأميركية لا خيار أمام الفلسطينيين سوى العمل على تقليص خسائرهم والحد من اندفاع شارون في تدمير مقومات قيام دولة فلسطينية. والأخذ بخيار ثالث هو التعامل مع كل خطوة يخطوها شارون على الأرض وفق قاعدة اخذ النتائج المفيدة ورفض الضارة. والاصرار على وجود طرف ثالث: أمم متحدة، قوات أميركية، أو متعددة الجنسية، يقوم بمهمة الفصل بين الطرفين واستلام كل ما تخليه إسرائيل من ارض ومبان ومنشآت مدنية وعسكرية، إذا حصل الاخلاء، وإعادة تسليمها للفلسطينيين. وفي سياق تقليص الخسائر وتجنب المفاجآت يجب التمعن جيداً في مضامين وابعاد أقوال شارون انه ابلغ بوش زعيم أقوى ديموقراطية في العالم عزمه على تصفية الرئيس عرفات المنتخب من شعبه بطريقة ديموقراطية والحائز على جائزة نوبل للسلام، وقوله ان رسائل الضمانات الاميركية للعرب لا تعنيه، وانه أقنع الرئيس الأميركي باستبدال فكرة قيام دولة فلسطينية العام 2005 بحل مرحلي انتقالي جديد طويل الأمد يمتد 10 أو 15 سنة، خصوصاً أن البيت الأبيض لم ينف الواقعتين. أما تأكيد الناطق الرسمي الأميركي بأن لا تغيير في الموقف الأميركي من مسألة التعرض لحياة عرفات فلا يوفر الحماية للرئيس الفلسطيني. والفلسطينيون والعرب ذهلوا لوقاحة شارون في حديثه عن الاغتيالات ولا أحد غير شارون يعرف جواب بوش الحقيقي...! * كاتب فلسطيني رام الله.