تعامل "المحافظون الجدد" مع كارثة 11 أيلول سبتمبر بوصفها فرصة نادرة لإطلاق مشروع يستحيل تمريره ما لم تكن أميركا جريحة على أرضها. هكذا ولد "الحلم العراقي"، وهو كان مغامرة كبرى. الانطلاق من هول 11 سبتمبر للذهاب بعيداً في حق الدفاع عن النفس وايصاله إلى حد حق تسديد الضربات الوقائية واجراء جراحات لأنظمة ومناطق. وكان وضع العراق نموذجياً ليقع الخيار عليه. نظام انتهك الحدود الدولية والقرارات الدولية واستخدم الغازات السامة ضد الإيرانيين والعراقيين معاً. نظام متهم بارتكاب الحلم النووي وتكديس أسلحة الدمار الشامل. نظام يقيم في قلب المنطقة المتهمة بانتاج أجيال من قماشة منفذي "غزوتي نيويورك وواشنطن". نظام يقيم فوق ثروة نفطية وسط عزلة اقليمية ودولية. كان "الحلم العراقي" كبيراً وخطيراً. هكذا تم الربط القسري بين أسلحة الدمار والإرهاب. شحنت الملفات بما يثير القلق والمخاوف ويبرر الذهاب إلى الحرب. حرب بلا تفويض دولي عارضها بقية الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي. هكذا تحوّل "الحلم العراقي" مشروعاً لانقلاب كبير على موقع الشرعية الدولية وهيبتها، وعلى معارضة الكبار الآخرين. كان "الحلم العراقي" ينص على اطلاق انقلاب في الشرق الأوسط عبر العراق. تغيير أنظمة أو تغيير سياسات. بدأ بتوهم القدرة على زرع نموذج ديموقراطي فوق ركام نظام صدام حسين. تم توظيف اشعاعات هذا النظام لإحراج الدول المجاورة وارغامها. كان المطلوب دفع دول المنطقة إلى القبول بما رفضته منذ سنوات وهو اعتناق القيم والأساليب التي تشترط الولاياتالمتحدة الجديدة توافرها لدى الراغبين في عضوية طبيعية في الأسرة الدولية و"العالم المتمدن". لم يعمّر "الحلم العراقي" طويلاً. بدا جيش الاحتلال بارعاً في تقويض نظام صدام حسين. وبدا الجيش نفسه غريباً في التعامل مع الشعب الذي أنقذه من نظام صدام. أظهرت الإدارة الأميركية لعراق ما بعد صدام جهلاً فاضحاً بتركيبة العراق ومشاعر مواطنيه وتطلعاتهم ومرجعياتهم الفعلية. بدت الهوة سحيقة بين نظريات المحتل والوقائع القائمة على الأرض. لم يوجه سقوط نظام صدام ضربة إلى الإرهاب. وفّر للمقاتلين الجوّالين ساحة وفرصة لتكرار تجربة المعهد الأفغاني في منطقة أكثر خطورة وأشد هولاً. تحرك الآلة العسكرية الساحقة على الأرض المثقلة بالمشاعر الحادة والرموز، جعلها ترتطم بالمجموعات العراقية وطموحاتها. كانت الولاياتالمتحدة تنظر إلى تسليم السلطة إلى العراقيين في 30 حزيران يونيو على أنه فرصة لتأكيد النجاح. من يواكب التطورات يدرك أن "الحلم العراقي" تبخّر فعلاً. الأسباب أعمق من الانتهاكات لحقوق المعتقلين العراقيين، وإن تكن الانتهاكات ضاعفت المتاعب والاحراج. من كلام بول بريمر للمرة الأولى عن الانسحاب إلى الاستجارة بالأخضر الإبراهيمي وصولاً إلى التشاور مع كبار معارضي الحرب لتدبيج قرار دولي جديد، يتضح أن "الحلم العراقي" كان مغامرة مكلفة، بل باهظة. من المبكر الحديث عن هزيمة أميركية كاملة، لكن الأكيد أننا نشهد اليوم انتقال إدارة جورج بوش من "الحلم العراقي" إلى البحث عن مخارج ترجئ طرح موضوع الانسحاب إلى ما بعد الانتخابات الأميركية.