منذ "قط أبيض قط أسود" يعيش المخرج أمير كوستوريتسا غياباً ملحوظاً عن السينما. ويسأل كثر: أين هو الآن؟ هل اكتفى بأن يكون عازفاً في فرقة روك كما كانت حاله خلال السنوات الماضية؟ هل لا يزال غاضباً بسبب ردود الفعل الفرنسية المتهافتة على فيلمه "اندرغراوند"؟ هل استنفد الرجل ينابيع إلهامه أم أنه يحضر لعمل جديد يطلع كالمفاجآت - كما كان دأبه دائماً - فيفرض حضوره؟ آخر أخبار مخرج الصربي البوسني - آخر اليوغوسلافيين كما يحب هو أن يسمي نفسه - ترجح الاحتمال الأخير: فالحال أن كوستوريتسا ينهي حالياً، في ضواحي بلغراد، تصوير المشاهد الأخيرة لفيلمه الذي أطلق عليه، منذ الآن، عنوان "الحياة معجزة". وموضوع الفيلم هو إمكان الحب في الأزمان الصعبة. وهذه الأزمان هي هنا، الحرب التي التهمت الاتحاد اليوغوسلافي ودمرته ودمرت شعوبه خلال عقد التسعينات من القرن الماضي. أما الحب فإنه ذاك الذي يعيشه رجل صربي يقع في غرام امرأة بوسنية حسناء كان رفاقه اختطفوها ليبادلوها بابنه الذي كان وقع أسيراً في أيدي الصربيين. من ناحية أولية قد يبدو هذا الموضوع عادياً وربما غير مقنع. ولكن، بالتحديد، لأن صاحب هذا الفيلم هو نفسه الذي قدم لنا سابقاً "حياة الغجر" و"أندرغراوند" بين أعمال أخرى، يحق لنا أن نتوقع فيلماً غير عادي: من الناحية السياسية أولاً، طالما أن كوستوريتسا البوسني كان ولا يزال يرفض التقسيم الذي، في رأيه، فرض على يوغوسلافيا من خارجها عبر حروب مفتعلة رسمت ب"الروموت كونترول"، وأنهت في الحضيض انجازاً كان تيتو والشعب اليوغوسلافي قد حققاه بفضل جهود تواصلت عقوداً من السنين، ومن الناحية الفنية طالما ان كوستوريتسا اختار هنا أن يظل متمسكاً بأسلوبه السينمائي الساحر، الذي لا يشبهه أسلوب أي سينما آخر، حيث تختلط الاسطورة بالرؤى السوريالية، والهزل بالمآسي، والرقص بالحداد، في بوتقة بصرية واحدة عمادها - كما هي الحال عند فليني - شخصيات مدهشة و"كاراكتيرات" لها غرابة الواقع الحقيقي. "الحياة معجزة" الذي قد يعرض في مهرجان "كان" المقبل، ليشكل أحد أبرز أحداثه، هو من انتاج فرنسي، وفيه تعاون كوستوريتسا مع تقنيين فرنسيين، أما الممثلون فهم "يوغوسلاف" بحسب تعبير المخرج، وجلهم سبق لنا أن شاهدناه في أفلام سابقة له. الصحافة الفرنسية التي بدأت تهتم بمشروع أمير كوستوريتسا الجديد، زارت مواقع التصوير ونشرت صوراً للفيلم ولتصوير الفيلم، وأبدت انبهارها منذ الآن بسحر هذا الفيلم الذي يضاف الى قائمة أفلام كوستوريتسا الساحرة، وركزت على ما يتوخاه المخرج من فيلمه في مجال التعبير غير الواقعي عن عوالمه وهواجسه ورغباته. وكوستوريتسا غذى بنفسه هذا الانبهار إذ قال لبعض الصحافيين الذين زاروه خلال العمل وسألوا عن حصة الواقع في فيلم "خيالي" عن حرب دامية مدمرة، فقال: "ان ما أكرهه أكثر من أي شيء آخر في السينما الحديثة هو حينما يقول البعض: إنها حقاً واقعية. بالنسبة إلي لا يجب أن تكون للأفلام أي علاقة بالواقع. فالأفلام تخييل وحكي. ومع هذا علينا أن نجعلها عضوية ومهيكلة في شكل جيد لكي تلامس المتفرجين، عبر المشاعر أولاً ثم عبر الذهن بعد ذلك".