أريد أن أتخذ للقارئ مدخلاً مباشراً في بحث موضوعي، غير مقيد بآراء مسبقة احتراماً لعقلية القاريء من ناحية، وانقاذاً له مما يصب في عقله من حملات ضارية تهدف إلى تشويه الحقائق وتحريفها من ناحية أخرى، وتمهيداً لنتيجة يتفق عليها ونلتزم بها من ناحية ثالثة. والسؤال الذي ينطلق منه تحليلنا هو: ماذا يفعل الأجانب أو كل من هو ليس عراقياً في العراق الآن؟ يوجد في العراق الآن قوات عسكرية أو خدمات عسكرية مرتبطة بها، كما يوجد مدنيون يعملون في خدمة هذه القوات، بالإضافة إلى السماسرة وعملاء الشركات التي تبحث عن فرص للنهب السريع أو تلقت وعداً بالمشاركة في عملية إعمار العراق. فهناك في العراق فريقان أساسيان الأول، هم العسكريون وأشباه العسكريين ومن يرتبط بهم من عناصر مدنية، والفريق الثاني، هم المدنيون الذين يمهدون لعمليات إعادة الإعمار التي ارتبطت في الأذهان بالشق المادي من إعادة صياغة العراق لكي يكون عراقاً جديداً منقطع الصلة بهذا العراق القديم الذي تحفظت عليه المنطقة العربية والذي كان محل جدل مع بعض دول العالم وعلى رأسها الولاياتالمتحدة. أما العسكريون، فهم القوات العاملة المسلحة الأميركية والبريطانية والاسترالية والنيوزيلاندية أساساً التي قامت بغزو العراق وتقوم باحتلاله، ثم انضمت إليها مجموعتان من القوات العاملة العسكرية، المجموعة الأولى هى التي لحقت بالولاياتالمتحدة خلال الغزو، وانتظمت خلف قيادتها العسكرية خلال الاحتلال، وساندت دولها الغزو والاحتلال والخطط الأميركية للاستمرار في العراق، وهذه الدول هى عموماً التي تدور في الفلك الأميركي المباشر، سواء في إطار حلف الاطلنطي مثل ايطاليا وأسبانيا حتى يوم 12/3/2004، أو تشعر بجميل للولايات المتحدة لمساندتها في دحر الشيوعية وتحولها إلى نظام السوق والتعددية السياسية، كما تساندها في دخول الاتحاد الأوروبي، وهى الدول العشر التي تنضم إلى الاتحاد في آيار مايو 2004 وكلها من دول شرق أوروبا والبلطيق الثلاث. أما المجموعة الثانية، فهى التي كانت تريد الانضمام فوراً مجاملة للولايات المتحدة، ولكنها كانت تبحث عن ذريعة قانونية تتغلب بها على اعتراض الشارع لديها، وهذه الدول هى اليابان وكوريا الجنوبية وتايلاند، وغيرها التي أعلنت أنها لا تشترك مباشرة في الجهود العسكرية، ولكنها ستقدم اسنادات لوجستية أو طبية، أي ستكون في خدمة الجهود العسكرية الأميركية وتحت قيادتها، وانضمت إلى هذه الدول حفنة من الدول الصغيرة التي شجعتها الولاياتالمتحدة بكل الإغراءات والضغوط من القارات الخمس مثل أكرانيا والبوسنة ونيكاراجو وغيرها، حتى تظهر الولاياتالمتحدة للعالم أن هناك تحالفاً دولياً يعمل بشكل مشروع، بل إن هذا التحالف اتسعت جبهته بقرار مجلس الأمن 1511 في 14/9/2003 الذي فتح الباب لقوات الدول الراغبة للانضمام إلى عمليات حفظ السلام في العراق على أساس أن السلم المطلوب حفظه هو سلم سكان العراق وتأمينهم ضد انفلات الأمن والعصابات التي نشطت في العراق بعد تحطيم الولاياتالمتحدة للنظام السابق، وحل مؤسساته، وأهمها الجيش وحزب البعث ووزارة الخارجية وغيرها، ما جعل المجتمع العراقي بلا حكومة أو نظام يدير شؤونه. ولكن الواقع هو أن هذه الدول ذهبت إلى العراق مجاملة للولايات المتحدة، ولكي تضمن السلم لقواتها، والهدوء في العراق خدمة للاحتلال. ولا شك أن القوات الأميركية تسببت بسلوكها وشجعت بهذا السلوك شعور سكان العراق بالخطر عندما تقاعست عن قمع حالات الاغتيال والتفجيرات والقتل والسرقة والاغتصاب، والتي شاركت في بعضها هذه القوات ونشر القليل منها في الإعلام الأميركي. ويلحق بالفريق الأول كل العاملين المدنيين في خدمة القوات العسكرية من مختلف الدول التي تشكل قوات التحالف تحت القيادة العسكرية الأميركية. ما هو الوضع القانوني لهذه الطائفة العسكرية المدنية الكاملة تحت القيادة العسكرية الأميركية؟ يقوم الوضع القانوني لهذه القوات على اساس قراري مجلس الأمن 1483و 1511 فالقرار الأول، يحدد وصف قوات التحالف بأنها قوات احتلال، ومن ثم يحكمها قانون الاحتلال الحربي، ولا عبرة بما تقوله الحكومة الأميركية من أن اعتراف مجلس الأمن لها بهذا الوصف أضفى عليها شرعية الاحتلال، وأن مجرد وصف الواقع في العراق لا يمكن أن يعد اعترافاً بشرعيته، وإنما على العكس يجب أن يؤخذ هذا الوصف على أنه مقدمة طبيعية لالتزام قوات الاحتلال بقواعد الاحتلال الذي تزعم الولاياتالمتحدة أنه أصبح مشروعاً. أما القرار 1511 الذي حول كل قوات الاحتلال إلى قوات لحفظ السلام فإنه قرار باطل، لأنه خرج بالمجلس عن مقتضيات سلطاته في الميثاق، ولا يجوز أن يغير المجلس الوصف القانوني لهذه القوات، وأن يفهم معنى حفظ السلام في العراق هذا الفهم الخاطئ. لأن هذا القرار الذي جعل القوات الأميركية نواة قوات حفظ السلام كان يجب أن يستبعد القوات الأميركية المحتلة تماماً، وأن يضع للسلام المعنى الذي تعرفه تقاليد الأممالمتحدة، ثم تقود هذه القوات قيادة يعينها الأمين العام،. وما كان يجوز هذا الخلط الفاضح بين المشروع وغير المشروع، بقصد التغطية على الاحتلال وجرائمه. يترتب على ذلك أن كل القوات العسكرية وشبه العسكرية وكل العاملين المدنيين تحت القيادة العسكرية الأميركية يقومون الآن بتكريس احتلال العراق، ونهب ثرواته، وتمكين الولاياتالمتحدة وحلفائها من تنفيذ مخططها في العراق الذي أعلنت عنه منذ البداية، وهو تحويل المجتمع العراقي والعراق نفسه إلى وضع جديد لا يكون للعروبة والإسلام وعلاقات العراق بأسرته العربية والاسلامية رابطة في إطار مخطط تمزيق المنطقة، وتمكين إسرائيل منها، وفرض الوصاية على الشعب العراقي بعد حرمانه من خصائصه وحرياته، وتدمير وحدته الوطنية، وتأليب طوائفه ضد بعضها البعض، بحيث يختفي الإطار الحاكم لكل هذه الطوائف وهو اسم العراق. فالقضية الواضحة إذن والتي لا يجوز أن تستغلق على افهام البعض عمداً أو بحسن نية هى أن الولاياتالمتحدة قررت غزو العراق لأغراض أميركية وصهيونية لا علاقة لها بأي من الأهداف النبيلة التي يسبح بها بوش ليل نهار. يضاف إلى ذلك أن هذه القوات التي تعمل في إطار مؤامرة دولية على العراق تدخل فيها الأممالمتحدة، تتضامن في قمع المقاومة العراقية وتصف أعمالها بأنها إرهابية، وأن التصدي لهذه المقاومة هو الجهد الدولي المطلوب لمقاومة هذا الإرهاب العراقي منقطع الصلة عن تنظيم القاعدة، وهى بؤرة جديدة يجب التضامن للقضاء عليها حتى تنجح المؤامرة في إسدال الستار على العراق. فإذا كان شعب العراق كله يشترك في المقاومة، فما معنى أن تعلن قيادة هذه القوات العسكرية والسياسية أنها تريد تحرير العراق، مادام سكان العراق يقاومونها ويطالبونها بالرحيل. يلحق بطائفة العسكريين وشبه العسكريين والمدنيين المرتبطة بهم بالطبع مجموعة المرتزقة التي جلبتها القوات الأميركية وكل من يعمل في إطار الاحتلال مهما كان وضعه وصفته ووظيفته. المجموعة الثانية تضم المدنيين والمقاولين والشركات التجارية والإعمار الذين يعملون في العراق في إطار عملية إعادة الإعمار من جنسيات مختلفة. ومادامت عمليات الإعمار المادية جزء من المخطط الأميركي لنهب ثروات العراق البترولية واتخاذ الاعمار ذريعة لاستطالة أمد الاحتلال وسبباً لهذا النهب الذي جعله قرار مجلس الأمن 1483 رسمياً، فلا تجد كل الدول غضاضة في التقرب إلى الولاياتالمتحدة حتى تفوز بجزء من الصفقة وتحظى ببعض عقود الإعمار، بعد أن أعلنت الولاياتالمتحدة رسمياً أن المشاركة في إعادة اعمار العراق هو مكافأة للدول التي تساند الغزو والاحتلال، بحيث صارت ثروة العراق البترولية التي ستغذي صندوق الإنفاق على هذه العقود سبباً في استمرار شقاء العراق، وهذا هو المنظور الذي قدمته الولاياتالمتحدة قبل الغزو عندما كان الخطاب السياسي الأميركي حافلاً بالتأكيد على الغزو والامعان في الهدم والتخريب خلال الغزو، فكلما اتسع نطاق التخريب والتدمير اتسعت فرص الإعمار، وكأن الولاياتالمتحدة تريد عراقاً جديداً تماما في مبانيه وأهله وعقليته وثقافته، متجاهلة أن العراق هو أعرق دول المنطقة وتولدت في رحمه العديد من الحضارات وعرفت أرضه أرتالاً من الغزاة، ولم تنجح في ما تتوهمه له الولاياتالمتحدة. يترتب على التحليل المتقدم، أن الأجانب بكل طوائفهم في العراق ارتبطوا بالاحتلال، ماداموا جزءاً من مشروع إجرامي هدفه استبعاد شعب العراق بكل طوائفه ويصبحون بالتالي هدفاً لعمليات المقاومة المشروعة، مهما كان نوع السلاح الذي تستخدمه. وإذا كانت الولاياتالمتحدة تذرعت بجرائمها في الفلوجة والأعمال البربرية العشوائية التي ترتكبها ضد سكان العراق بأن فريقاً من المقاومة مثل بعدد من جنودها القتلى لترويع زملائهم فيفروا من صفوف الاحتلال، وهب العالم كله ليدين المقاومة، فلعله من الواضح أننا نعيش في مجتمع دولي شعاره النفاق ولا يعترف إلا بالقوة، فمن الجلي أن أحداً لم يدن بكلمة واحدة قتل السكان في العراق واستخدام طائرات الأباتشي في قتل المدنيين وهو أسوأ عمليات التمثيل، وهدم المنازل فوق رؤوس أصحابها، والتنكيل بكل الطوائف وهدم المساجد فوق رؤوس المصلين وعدم احترام أية حرمة دينية أو أخلاقية أو قانونية، وهى في ذلك تقلد الطريقة الشارونية التي أعجب بها بوش سياسياً وعسكرياً، وأصبح شارون هو حليفه الوحيد ومثله الأعلى، ولذلك فإنه إذا كان التمثيل بالقتلى محظوراً في الشريعة الإسلامية وتقاليد الحروب الإسلامية، فإن الامتناع عنه يكون امتثالاً لهذه الشريعة، ولا يجوز لمن يمارسونه من منطق العدوان أن يحتجوا عليه، فكرامة الموتى مصدرها الالتزام الشرعي وليس الإدانة الدولية لانتهاكها، لأن الإدانة لا تلحق إلا بالضعفاء. أما اعمال خطف الأجانب وقتلهم أو التهديد بذلك حتى تسحب دولهم قواتها من العراق، فرغم أنه من أعمال الإرهاب، إلا أن الإرهاب رداً على إرهابهم وعدوانهم هو عين الحق في شرعية المقاومة، والحل بسيط وهو التزام جانب حق الشعب العراقي في تقرير مصيره، ويكون الخطف والقتل، رغم أنه يلحق بعض الأبرياء، إلا أنه يرتكب في إطار الدفاع المشروع عن الحق في الحياة ودفع العدوان. وخلاصة القول إن القوات العاملة في العراق في إطار الاحتلال لا يجوز أن تختلط بقوات حفظ السلام، ولا يجوز لمجلس الأمن ان يصدر قراراً جديداً يحث فيه الدول على المشاركة بالقوات جنباً إلى جنب مع قوات الاحتلال تحت زعم أن المجتمع الدولي يهمه وقف الإضطراب في العراق، كما لا يجوز للمجتمع الدولي أن يعول مطلقاً على التفسير الأميركي وبعض التفسيرات العربية والعراقية من أن القوات الأميركية تدافع عن الاستقرار ويجب تمكينها من تنفيذ برنامج الإعمار والتحرير، وحيث تطلق القوات الأميركية على نفسها"قوات التحرير"، ضد التمرد من جانب اعداء الشعب العراقي، وبحيث يصبح الموجودون في العراق من وجهة النظر الأميركية إما أعداء لاستقرار العراق، أو حلفاء لمصلحة العراق، ويجب أن تفرض هذه المصلحة بالقوة في نظرهم، لأن الشعب العراقي قاصر لا يستطيع أن يدرك النفع والضرر والمصلحة. فإذا كانت بعض الدول العربية بسبب علاقاتها بالولاياتالمتحدة لا تمانع بالمشاركة بقوات في العراق، لكي تنضم إلى قوات التحالف، ولكنها تشترط صدور قرار بذلك من مجلس الأمن، فإن هذه الدول لابد أن تكون على بينة من أنها تنضم إلى التحالف لإدامة الاحتلال، والتصدي للمقاومة العراقية، وزرع العداوات التاريخية بين الشعب العراقي وبين دولها، ولذلك فإنني أرجو أن تحاذر الدول العربية من هذه المصيدة، وألا تسهم بقواتها تحت أي مسمى، مادام الاحتلال الأميركي قائماً، وألا يكون إسهامها إلا بديلاً عن الاحتلال الأميركي، وأن يكون هدفها الاساسي تمكين الشعب العراقي من بناء نظام جديد يرتضيه. * كاتب مصري.