ينعقد في شرم الشيخ في هذين اليومين المؤتمر الدولي بشأن العراق وسط اعتقاد عام بأن القضاء على المقاومة العراقية في الفلوجة مهّد الطريق لإجراء الانتخابات في كانون الثاني يناير المقبل، وأن هذا الطريق هو الأسلوب الوحيد لتحديد مستقبل العراق. وأوضح الرئيس بوش خلال الحملة الانتخابية أن القوات الأميركية حررت العراق من حكم صدام حسين الاستبدادى وبقى عليها أن تقيم في هذا البلد نظاماً ديموقراطياً للعراق، وأن العقبة الرئيسية لتحقيق هذا الهدف هي"الإرهاب"الذي تمارسه جماعات صدامية وحاقدة وأجنبية تحارب الولاياتالمتحدة على أرض العراق وتعطل بذلك تقدمه نحو المستقبل، ولذلك فإن القضاء عليها هو مسؤولية دولية وهو الخطوة الأولى لإجراء الانتخابات في مناخ هادئ. أما مؤتمر شرم الشيخ فهو الذي يضع اللمسات الأخيرة على هذه العملية السياسية ويكون بمثابة مباركة للجهود الأميركية في تحقيق الاستقرار في العراق. يبدو ان هذا الطرح الاميركي يلقى قبولاً عاماً في العالم العربي وسكوتاً شاملاً على المستوى الدولي وتأييداً حاراً بين شريحة من المثقفين العرب. ونظراً الى خطورة هذا الطرح وبساطته المخلة فإن من المهم أن نقدم تحليلاً منهجياً لإطار هذا المؤتمر وخطورة النتائج التى يمكن أن تسفر عنه، من دون أن يقلل ذلك من اعتقادنا بأن الولاياتالمتحدة أبدت إصراراً على أن تأييد المؤتمر لخطها سيقطع شوطاً بعيداً في تحقيق المخطط الأميركي في العراق. يجب أن نقرر إبتداءً أن مشكلة العراق الأساسية هي أن المجتمع العراقي أصبح من دون نظام سياسي بسبب الاحتلال، والاحتلال عادة يزيل النظام السياسي، لكن هذا النظام المخلوع يظل يقود المقاومة للاحتلال ويحمل لواء الشرعية فوق ساريته ويظل يقاوم، ويقيم حكومة في المنفى إن لزم الأمر، حتى يزول الاحتلال فيعود النظام القديم مظفراً فيلتئم شمل الدولة بعناصرها بعد أن يتحرر شعبها وإقليمها وتعود إليهما الرأس وهي النظام السياسي أو الحكومة بمعناها الواسع أو السلطة السياسية. حدث ذلك عندما غزا العراقالكويت، فصدر قرار الأممالمتحدة الرقم 661 الذي بارك في فقراته الأخيرة مقاومة الاحتلال وحكومة المنفى الكويتية التي اتخذت من مدينة الطائف السعودية مقراً لها، وسحب القرار الشرعية من سلطة الاحتلال، كما حرمها من التصرف بمقدرات الشعب الكويتي. ولذلك تعد حالة العراق في الكويت هي الحالة النموذجية التي توافق فيها النص القانوني المثالي مع الواقع وسبب ذلك هو التطابق بين الرغبات والمصالح الأميركية وبين نموذج الشرعية الدولية في القانون الدولي. حدث ذلك أيضاً في معظم أحوال الاحتلال منذ الحرب العالمية الثانية خصوصًا عندما تكون واشنطن مناهضة لهذا الاحتلال. أما الاحتلال الأميركي للعراق فهو حالة الصراع بين القوة والقانون، ولذلك تحاول واشنطن أن تجعل القوة هي التي تصنع الواقع وأن تلبسه ثوب القانون وتلوي عنق النصوص جميعاً لتحقيق هذا الغرض. ومن المفيد أن نتصدى بالتحليل لبعض المسائل المتصلة بهذا المؤتمر حتى نجيب عن الأسئلة التي تتردد بشأنه وأشرنا إليها في صدر هذه المقالة. فالمؤتمر فكرة أميركية أو فرنسية تلقتها واشنطن بسرعة لاحتوائها. وكانت روسيا اقترحت، على استحياء، منذ حزيران يونيو الماضي، عقد مؤتمر دولي حول العراق وذلك لتدويل القضية وإخراجها من الحكر الأميركي وللقفز فوق مستوى المؤتمر الإقليمي للدول المجاورة للعراق الذي تستخدمه الولاياتالمتحدة ضمن استراتيجيتها في العراق. وهي فرض الاحتلال وقمع كل مقاومة له حتى تفرغ في المرحلة التالية من برنامج الغزو وأهدافه، وحتى تثبت لمعارضي الغزو أنها تستطيع وحدها أن تعيد رسم الخرائط الإقليمية وليست بحاجة الى التحالف مع أحد أو اقتسام القرار الدولي مع دول أخرى. ثم طوّرت فرنسا الفكرة لكنها شعرت بأنها تنضم بذلك إلى روسيا ضد واشنطن، فعملت لكي يندمج المقترح الفرنسي مع الأميركي ويغفل البعد الروسي في إطار ما يرصده المراقبون من مرونة فرنسية جديدة للتآلف مع الولاياتالمتحدة بعدما خسرت فرنسا الكثير في الداخل والخارج بسبب حدة المعارضة من دون جدوى للسياسات الأميركية. على رغم ذلك تخلت فرنسا عن عقد المؤتمر في باريس وقبلت الاقتراح الأميركي بعقده في مصر، ووافقت واشنطن على اقتراح مصر أن يعقد في شرم الشيخ خصوصًا بعد تفجيرات طابا ونويبع ودعماً للنظرية القائلة بأن هذه الأحداث ليست مقدمة لموجة جديدة من الإرهاب في مصر ولا أثر لها في السياحة في هذه المناطق ذات الجذب السياحى المرتفع. وبدت مصر في البداية مجرد أمانة للمؤتمر لكنها اتجهت إلى لعب دور راح يتحدد شيئاً فشيئاً في ضوء تطور جدول أعمال المؤتمر. وكانت فرنسا اقترحت إشراك المقاومة العراقية، لكن واشنطن أعلنت أنه لن يشارك في المؤتمر سوى الحكومات الرسمية، ولن يسمح للمعارضين للاحتلال بالمشاركة، حتى يشارك فيه فقط المرحبون بالاحتلال. أما هدف المؤتمر فظل موضع خلاف. فالولاياتالمتحدة أرادته رسالة من المجتمع الدولي إلى شعب العراق بمواصلة العملية السياسية التي تقوم بها الحكومة العراقية وعقد الانتخابات في موعدها. ورأى وزير خارجية العراق أن المؤتمر يهدف إلى طمأنة جيران العراق وإزالة مخاوفهم بشأن استمرار بقاء"القوات متعددة الجنسية"ونياتها تجاههم، وقد أعلنت إيطاليا أنها ترتب لسحب قواتها من العراق مع بداية العام الجديد. وأكدت الولاياتالمتحدة مراراً أن هدف المؤتمر هو جلب الاستقرار إلى العراق، لكن فرنسا رأت أن المؤتمر مناسبة للبحث في مستقبل العراق وعدم قصر وظيفة المؤتمر على عملية الانتخابات حتى تكون للمجتمع الدولي، ممثلاً بهذا المؤتمر، قدرة على تصحيح الخلل في نتائج الانتخابات. أما داخل العراق، فالانقسام بالغ الحدة. ذلك أن آية الله السيستاني حضّ الشيعة على المشاركة في الانتخابات واعتبر التراخي في ذلك معصية لله ولأولي الأمر. ولم نعد نسمع شيئاً عن مقتدى الصدر. بينما يصرّ علماء السنة على أنه لا يمكن إجراء انتخابات في العراق تحت سلطة الاحتلال لأن الحكومة الجديدة ستكون صنيعة الاحتلال وستطالب باستمراره، ومن ثم ينظر علماء المسلمين السنّة بضيق إلى موقف الشيعة المهادن للاحتلال طمعاً في رضا واشنطن عنهم، كما ينظرون بقلق إلى مؤتمر شرم الشيخ لئلا يكون تكريساً للاتجاه إلى الانتخابات كما يكون تكريساً للاحتلال. ومن الواضح أن موقف علماء السنة يغضب الولاياتالمتحدة، وهذا أحد الأسباب الأساسية لتركيز الهجوم الأميركي على مناطق السنة خصوصًا ما يسمى بالمثلث السني ورأسه الفلوجة التى تنطلق منها المقاومة. هذا الموقف هو إعلان عما وصل إليه حال العراق من انقسام تغذيه الولاياتالمتحدة ويسهم مؤتمر شرم الشيخ في تكريسه. فإذا اتجه المؤتمر إلى البحث في الترتيبات اللازمة لإجراء الانتخابات في كل المناطق العراقية تحت إشراف المؤتمر، وفي الوقت نفسه الحصول على تعهد من الولاياتالمتحدة بجدول زمني لسحب قواتها من العراق حسبما تأمل فرنسا، فإن المؤتمر يتحوّل كسباً كبيراً للشعب العراقي. ولكن تبقى المشكلة المتعلقة بالوضع السياسي للعراق بعد زوال الاحتلال، لأن تشكيل نظام سياسي في ظل الاحتلال، ولو بإشراف دولي على الانتخابات، يعني انه لن يسعى الى تمثيل قوى المقاومة التي تشعر بأن المستقبل لها ولا يمكن العمل في المستقبل مع القوى التي أيدت الاحتلال مباشرة كالأكراد أو التي سكتت عليه كالشيعة. وترى المقاومة أن التفاضل بين الفئات للظهور على الخريطة السياسية للعراق الجديد هو بقدر مناوأة الاحتلال والتضحية لإزالته، وليس مهادنته تحت شعار المقاومة السلمية لتحرير الوطن والرافض ذلك التعاون مع المحتل. على الجانب الآخر، قد يتجه المؤتمر إلى التركيز فقط على توفير المناخ الأمني المناسب لإجراء الانتخابات، خصوصًا أن واشنطن قامت بحملة عسكرية واسعة لإسكات المقاومة تماماً قبل عقد المؤتمر، لكي ينحصر هدف المؤتمر بإجراء الانتخابات ولكي لا يكون له شأن بمستقبل الاحتلال أو العراق... فهذه أمور تقرّها سلطات العراق الجديد التي تشكلها الانتخابات، أي المجلس الوطني والحكومة الدائمة، فإن المؤتمر سيعدّ انتصاراً للسياسات الأميركية تماماً. غير أن هذا الوضع يعني أن القوى الرافضة للمشاركة في الانتخابات أو التي لا تستطيع بحكم موقعها من المقاومة ستظل خارج التركيبة السياسية الجديدة، مما يعني توسيع الدائرة العراقية المؤيدة للاحتلال، وتوسيع دائرة قدرتها على التصدي لهذه المقاومة بمساندة من قوات الاحتلال مما يدفع البلاد إلى حرب أهلية حقيقية. أخيراً تجدر الإشارة إلى أن الانتخابات والجدل حولها يحتدم في وقت تنشر الصحف الأميركية استطلاعات للرأي حول شعبية حكومة إياد علاوي، وهي تشير إلى أن تلك الحكومة تفقد أرضية خطيرة يوماً بعد يوم، فيما ارتفعت شعبية الزعماء الدينيين، وهو ما يبعث على قلق الإدارة الأميركية لأنه قد يضطرها إلى قبول ما تحاذر منه حتى الآن، وهو الاستعانة بهؤلاء الزعماء خصوصًا من الشيعة. وأظهر الاستطلاع الذي أجراه المعهد الجمهوري الدولي في واشنطن أن معظم العراقيين يعتبرون سبب انعدام الأمن هو سلطات الاحتلال أكثر من كونه أثراً من آثار المقاومة. كما يلفت إلى أن الولاياتالمتحدة تصر على أن المؤتمر يقصر تركيزه لقرار مجلس الأمن الرقم 1546 في 8/ 6/ 2004، وهذا يعني أن الولاياتالمتحدة تشير إلى الفقرة الخامسة من هذا القرار التي تشير إلى أن مجلس الأمن يدعو حكومة العراق إلى النظر في كيفية عقد اجتماع دولي لدعم الانتخابات أو العملية السلمية لتحقيق الانتقال السياسي العراقي والانتعاش العراقي لمصلحة شعب العراق والاستقرار في المنطقة. ومن الواضح أن اتخاذ هذا القرار كمرجعية لمؤتمر شرم الشيخ يعني أن للمؤتمر مهمة محددة ليست بالتأكيد وضع جدول زمني لزوال الاحتلال مادام القرار 1511، والقرار 1546 أقر بانتهاء الاحتلال من الناحية النظرية، ورحب الأخير باستعداد قوات الاحتلال التي عاد يسميها القوات المتعددة الجنسيات البقاء بتكليفات محددة وأن يكون وجودها متروكاً للحكومة العراقية التي تسفر عنها الانتخابات. نقول إذا ساد هذا التفسير فإن المؤتمر سيكون نجاحاً للولايات المتحدة وانتكاسة كبرى لمستقبل العراق. مما سبق يتضح أن عقد المؤتمر بذاته لا يعني شيئاً، ولكن تحديد جدول أعماله والمشاركين فيه والقضايا التي سيمكنه بحثها هي التي ستحدد مدى مساهمته في تقريب الشعب العراقي من استقلاله الحقيقي، أم يصبح المؤتمر حلقة أخرى من حلقات المأساة العراقية. ويبقى دائماً السؤال الملح: كيف يمكن وضع نظام سياسي للعراق بأقل قدر من التشويه والتدخل في ظل الوجود العسكري الأميركي في العراق؟ وهل يجب أن تتوقف الجهود ما دام كل عمل في ظل الاحتلال يسير عكس تيار المصالح الوطنية العراقية؟ وأنه لا بد من الانتظار حتى تفكر الولاياتالمتحدة من تطوير وجودها العسكري في العراق وهو ما وعد به جون كيري مرشح الرئاسة المنافس لبوش، ولم يقل إنه سيسحب التواجد الأميركي كلياً، ولكن يأمل بأن يحقق المصالح الأميركية في العراق من دون الحاجة إلى هذا التواجد الكثيف. ويتضح مما سبق أن مؤتمر شرم الشيخ يمكن أن يتجه في الظروف الحالية وبصورة عامة نحو مساندة الخطط الأميركية واسباغ الشرعية على المذابح الأميركية بالفلوجة، وأنه بذلك يضيف لبنة أخرى في بناء الشرعية الزاحفة للوجود الأميركي في العراق التى أصبح قوامها عددًا من قرارات مجلس الأمن وبعض المواقف الدولية الأخرى يضاف إليها النتائج المحتملة لقمة شرم الشيخ. * كاتب مصري.