عنّ لنا، ان نُعمل جهدنا بكل امل ونية صادقة، دلواً مغايراً لما ظل أقطاب النظام الحاكم في الخرطوم يهرفون بقوله على مستوى الصحف السيارة والإلكترونية على حد سواء. حيث طالعنا، وفعل غيرنا، بدهشة فائقة، في الثالث والرابع من تموز يوليو 2003 مقالات للدكتور غازي صلاح الدين، مستشار الرئيس لشؤون السلام في "الحياة"، والأستاذ احمد كمال الدين المحامي من "سودانايل" الإلكترونية في الخامس منه. ينعى الأول منهما - غازي صلاح الدين - فشل معالجة الشريعة الإسلامية بصورة عامة، ويتغيا الثاني نمذجة مشروع يُستهدى به في التخطيط والعدل الاجتماعي في السودان. مبعث الدهشة كان آنذاك، ولا يزال، انه بعد كل العبث والتلاعب الذي مارسته حكومة "الجبهة الإسلامية" باسم الدين، طوال سني تربعها على دسّت الحكم والفشل المطلق الذي لازم تلك التجربة، يظل اصرار عرّابي النظام على ابتناء قراءتهم وتحليلهم لواقع السودان ومشكلاته على تنظير "إسلاموي" ينتابنا ظن في نسبته الى الإسلام. ففي مقالتَيه تينك اخبرنا، نظرياً، الغازي صلاح الدين بمناسبة الشريعة الإسلامية، كضامن لحقوق المسلمين وغير المسلمين. غير انه يعيب عدم تقديمها بالصورة المطلوبة. وذلك خبر يأمرنا الإسلام، الذي نتشاركه اعتقاداً و"الغازي" وصحبه، بالتثبت منه، إذ لا نختلف في صلاح الإسلام لكل زمان ومكان كمعتقد. ولكن اي زمان ومكان ذلكم الذي نتحدث عنهما؟ فنحن زعيمون بعدم مناسبة رأيهم للقرن الراهن، ناهيك عن تاليه. ولا نفاجأ كثيراً إذا ما اكتشفنا انها امور الدنيا والحكم والسلطان - سياسة بلغة العصر - والقصص المروية تحدثنا اكثر ما تفعل عن المحاولات العامدة الى حشر الدين في السياسة. وهي "ثيمة" لازمت العصر الذي بعث تلك النزعة في النفوس. هذا ما كان من الأمر عبر التاريخ، الذي ما فتئ بعضهم يتداعون الى التلاحي حوله، ولو نظرياً. اما عصرنا فلم يثبت ايما تجربة قمينة بالاحتذاء والمحاكاة. وأما القول بإخفاق "الجبهة الإسلامية" في عرض الشريعة الإسلامية بهتافية متشنجة تدعو الى تطبيقها على رغم الأنف والرقاب، فقول يراغم الحقيقة. والدكتور العتباني، احد اركان النظام الحاكم، يدعو الى إرغام المواطنين على الولاء. ولا يحد طموحهم وطن يسيّج هوسهم ذاك، وإنما يتعدونه الى ما ورائه من دول الجوار الإقليمي والكنف العالمي بضلوعهم في مسائل الدول الداخلية، كالجزائر وإثيوبيا وإريتريا وليبيا. وكان حقيق بالدكتور الغازي صلاح الدين ان يسقط انتقاداته تلك على محاولاتهم اعادة فتح السودان منذ عام 1989، وهو القيادي النافذ في الحزب الحاكم، او ان يسدي نصحاً، عملاً بمقتضى مسؤوليات منصبه كمستشار للرئيس لشؤون السلام آنذاك، بدلاً من تلك الغلواء، وذلك التنطع، وذلك التطرف والقمع والتطهير العرقي والثقافي الذي حاكمه في مقالته تلك. وما نستغرب من مقالة اخرى حدثنا بها المحامي احمد كمال الدين، هو غدو إسلامويي السودان الى متوركيين اكثر من التركيين انفسهم. ويا لهفي على تركيا التي جعلوها مضرباً سيئاً لكل ما لا يريدونه. إذ ظل اسلامويو السودان يحاكمون تجارب غيرهم، ويغفلون امر تجربتهم المبرأة من كل عيب من دون اسقاط اي من سهام نقدهم الصدئة تلك عليها. وهو ما ذهب إليه الأستاذ كمال الدين في غمار إدانته لفلسفة ارسطو التي اقرت الاسترقاق كما قال. اما كان الأجدى والأقمن بالأستاذ، وهو احد المتلاحين حول إشادة نظام اسلامي "عابر للقارات"، بدلاً من إعمال جهده ذاك في تقليب فلسفة ارسطو بالشكل الذي اعمله، ان يعمله في محاكمة تجربة حزبه القائمة على الاستعلاء العرقي، او محاكمة التجربة "التاريخية" التي يدعونا الى الرجوع إليها؟ ثم هل استعصت عليه قراءة التجربة "التاريخية" التي سلف ذكرها؟ اما ثالثة اثافي العرّابيين فمقالة البشير لمؤتمر الشريعة والاجتهاد، المنعقد في الخرطوم في نيسان ابريل في السنة الحالية واعترافه بالأخطاء التي لازمت تطبيق الشريعة، وإفضاء ذلك - كنتيجة - الى طاولة المفاوضات مع الحركة الشعبية. وتلك لعمرى فرية ابريلية! ولا نزال نجهل علاقة هذا الشهر بالافتراءات. إذ لا علاقة البتة بفشل تطبيق الشريعة، أو الأخطاء التي لازمت تطبيقها بالمحادثات الجارية او السالفة للجارية، إذ اول ما استولى الإنقاذيون على السلطة بليل في حزيران يونيو 1989، وحتى قبل اتضاح هوية منفذي الانقلاب، شرعوا في الترتيب للجلوس الى الحركة الشعبية ومفاوضتها. وفي تشرين الثاني نوفمبر 1993 شكلت "الإيغاد" لجنة رباعية من كينيا وأوغندا وإثيوبيا وإريتريا للبحث في تسوية سلمية للنزاع السوداني، بعد ان طلب البشير من الرؤساء ذلك. وعندنا طرحت اللجنة وثيقة إعلان مبادئ "الإيغاد" التي نصت، فيما نصت، على حق تقرير المصير للجنوبيين، وحياد الدولة، كأساس للتفاوض، انسحبت الحكومة من المفاوضات، ثم عادت ووافقت عليها في تموز يوليو 1997، ووقعت اخيراً في تموز 2002 على بروتوكول مشاكوس. إذاً ما هي العلاقة المباشرة بين فشل التطبيق الذي افضى الى التفاوض الجاري بين الحركة الشعبية وحكومة الأمر الواقع في الخرطوم؟ هل تديّن الحركة، وحرصها على التطبيق هو الذي دفعها للجلوس الى الحكومة ومفاوضتها؟" وبعد الاعتراف الصريح بعلاقة "الجبهة الإسلامية" بالانقلاب الذي نفذه العسكريون في 1989، في مسرحية "ودعيت للقصر رئيساً وذهبت الى السجن حبيساً"، وبعد قرارات طلاق الرابع من رمضان من عام 1999، لا تملك حصحصة الحق إلا ان تضل طريقها الى افهامنا بالأحاديث الصحافية التي يدهشنا بها رموز الجبهة وكل النفعيين المنتسبين إليها. فالبشير ما اعتلى منبراً إلا وحدثنا عن وفائه لدماء الشهداء الذين سقطوا من اجل سيادة حكم الشارع و"شريعته"، ويلقي باللائمة على خصومه الشعبيين، وتورطهم في اثارة الفتن والبلابل على نظام حكمه والبلاد على حد سواء. ولا يمل الأمين العام للشعبي التطواف على الصحف العربية، وترداد القول لتبيان اختلافه في اصول الدين مع المؤتمر - وطنيين الذي ادى لمفارقته لجماعتهم. فذكر لمجلة "الأهرام العربي" في 25 تشرين الأول اكتوبر 2003 قائلاً: "لقد اختلفنا على اصول فهم الدين وعلى اسس الحريات... كانت بيننا خلافات في هذه المسألة، فأنا كنت ادعو الى جهاد تبشيري لا يقف عند حدود القتال فقط ولكنه يمتد في حالة توفير الأمن، الى تعليم الناس وخدمتهم لكنهم - المؤتمر الوطني - لا يريدون حرية حقيقية وشورى حقيقية لكل الشعب عبر الانتخابات والاستفتاءات، هم يعتمدون على ديكاتورية الفرد وليس شورى الناس". وما بين إدانة الأول للثاني ومحاولة الثاني الشعبي تبرئة ساحته مما لحق بها من تهم غلاظ، ينحر المشروع الذي كانا حاملي لوائه. ننتهي الى انه على "الإسلاميين" في السودان ان ينتهوا الى النهايات المنطقية لاعترافاتهم تلك بعدم صلاحية برنامجهم ذاك لبلد كالسودان، ذي التضاريس الثقافية والدينية والعرقية المعقدة، وحفاظاً على البرنامج من التماهي، لا سيما بعد المعاسرة التي يمر بها التفاوض الجاري الآن والذي سينتهي قريباً الى اتفاق لاحت معالمه في الأفق وستتضح مع مرور الأزمان والآجال والقائلة بانزواء المشروع الى قمقمه مرة اخرى بعد انطلاقه منه في ثمانينات القرن الفائت. فهل يفعلون؟ القاهرة - عاطف كير حمدون كاتب سوداني مقيم