يبدو ان التشدد الديني في ايران له فوائده ايضاً ومن ناحية سينمائية، هذا الأمر الذي قد يبدو غريباً ومفارقاً... فمعلوم ان هذا الوضع المتزمت لا يسمح بظهور اي فيلم تكون فيه المرأة غير منقبة - وهذا يعني ان من المستحيل ان ينتج فيلم فيه بعض عناصر الجنس او الاختلاط مما تحفل به موضوعات السينما في العالم... ولذلك فالمخرج أو المخرجة الذي لا يرغب في معالجة امور دينية او تاريخية، عليه ان يجد موضوعاً انسانياً محترماً حتى يستطيع ان يمرر فيلمه من خلال الرقابة الصارمة... ولذلك يضطر كثير من المخرجين والمخرجات في ايران الى ان ينتجوا افلامهم خارج ايران... في الشهر الماضي عرضت لجنة السينما في مؤسسة شومان في عمان ثلاثة افلام ايرانية روائية اتيح لي ان اشاهد اثنين منها هما فيلم "باشو" من إخراج بهرام بيضاني وفيلم "الطريق الى قندهار" من اخراج المخرج المعروف محسن مخملباف. ولم تذكر النشرة التي سبق توزيعها على المشاهدين عرض الأفلام اذا كان هذان الفيلمان قد انتجا في ايران ام خارجها. ذلك انهما اذا انتجا في ايران فإن احدهما على الأقل وهو "باشو" يدل الى ان الرقابة في ايران ليست متزمتة بالقدر الذي نتصوره، لا لأن في الفيلم قُبلاً ومطارحات غرامية - لا سمح الله - فهذا امر لا يمكن ان يحدث... ولكن ببساطة لأن الفيلم دار بأكمله من دون ان نرى اي اثر للتدين ومظاهره، إذ لم نر احداً يصلي او يذهب الى الجامع... ذلك اننا نتوقع عندما نشاهد فيلماً ايرانياً حدوث امور دينية، اقلها ان نرى اناساً يقومون بأداء الصلاة، وهو اقل ما يمكن ان يطلبه الرقيب. فإذا ما ثبت ان هذا الفيلم صوّر وأنتج في ايران فإننا قد نستنتج ان موضوع الفيلم الإنساني - السياسي بشكل لماح وغير مباشر، قد جعل الرقيب يغض النظر عن خلو الفيلم من المظاهر الدينية. على كل حال فموضوع الفيلم انساني يكشف حقيقة الواقع سواء في المنطقة العربية ام في ايران ام في بقية المناطق الريفية حيث يعم الفقر. يدور الفيلم خلال الحرب العراقية - الإيرانية حيث دُمّرت معظم المدن والقرى العربية على خطوط التماس... وإثر قصف جوي مركّز ينجو "باشو" الصبي العربي الذي يقتل جميع اهله اثناء القصف ويهرب من جحيم الحرب ويتمكن من التخفي في سيارة شحن صغيرة... لينتهي به الأمر الى الوصول الى احد حقول الرز حيث امرأة وطفلاها يتناولون طعاماً بسيطاً. تلحظه المرأة وتحاول بدافع من الفضول والإنسانية ان تقدم له شيئاً ولكنه - وهو الولد المطارد المذعور يظل خائفاً... وبين لعبة كرو وفر يستسلم الصبي للمرأة التي تضمه الى اسرتها على رغم معارضة اقاربها وأهل البلدة لها... الصبي لونه اسمر داكن - فهو اذاً ليس ايرانياً - وهنا قد يبدو الأمر مغالطة، فليس كل العرب الإيرانيين سمر البشرة، كما ان الإيرانيين ليسوا جميعاً شقراً وبيض البشرة. ثم ان اصرار المرأة الذي يكاد يكون عصابياً على العناية بالصبي المذعور الشرود لم يكن مفهوماً تماماً - فما حاجتها الى هذا الصبي المزعج وهي لا تكاد تجد القوت لإطعام طفليها؟ وقد جاء تفسير بعض الذين علقوا على الفيلم ضعيفاً وغير مقنع إذ رأوا ان التوحد الإنساني بين الاثنين من حيث الإحساس بالخوف والوحدة كان اساس التجاذب بينهما. وعلى الأرجح فقد يكون هناك سبب سياسي غير مباشر وراء هذا الاختيار فكأن المخرج - بالتواطؤ مع الرقيب - اراد ان يقول ان هذا الصبي هو ضحية القصف العراقي - العربي - على حين ان الأم الإيرانية تحتضنه - بل تكاد ترغمه - على الانضمام إليها... قد يكون هذا التفسير بوليسياً بعض الشيء إلا انه وارد. على كل حال وعلى رغم بعض الاعتراضات الجدلية فإن الفيلم نظيف وجيد وهو يعرفنا الى شريحة فلاحية من ايران - وكم تشبه هذه الشريحة اهلنا المزارعين هنا، مع الفارق انهم يكثرون من استخدام سماور الشاي المعروف في حين لا نستخدمه هنا... "السفر الى قندهار" هذه هي "غرنيكا" الأفغانية - لكن بالصورة المتحركة عبر فيلم خطير يعرض التراجيديا الأفغانية المستمرة منذ اكثر من عشرين سنة. صورة للبؤس والدمار الذي لحق بهذا البلد - والذي بحسب الفيلم يمكن ان يكون ثلث سكانه على الأقل قد فقدوا اطرافهم او احدها على الأقل... جبال جرداء وصحارى تنتشر فيها هياكل عظمية وحشود من ذوي العاهات والفقر المدقع وأخلاق الكارثة التي تجعل من كل شخص سارقاً او كاذباً محتملاً... اما النساء فلا يسمح لأي منهن بأن ترى إلا من خلال ثقوب صغيرة من غطاء الوجه - وهم انفسهم - اي الأفغان - يسمون النساء بالرؤوس السود. الفيلم بهذا تسجيلي الى حد كبير - ولكنه يروي قصة امرأة ايرانية جميلة هي "تافاس" المهاجرة الى كندا والتي تضطر للقدوم الى قندهار قاطعة جبالاً وفيافي من اجل محاولة انقاذ شقيقتها المعتقلة التي تهدد بالانتحار... في الفيلم طائرة للأمم المتحدة تقوم بنقل تافاس الى نقطة معينة ولكنها لا تزال بعيدة من قندهار - وهناك الصبي خاك الذي يعمل دليلاً في جزء من الرحلة ويعثر على خاتم في اصبع هيكل عظمي ويحاول بيعه الى تافاس التي تصاب بالهلع والاشمئزاز. لكن خاك يلح عليها مرة واثنتين وعشراً الى ان تقبل ان تأخذ الخاتم لتتخلص من إلحاحه غير المعقول. يبدو هذا الإلحاح - الذي يبدو كأنه خاصية افغانية، من خلال رجل يعيد روايته عشرين مرة على إحدى الممرضات الأجنبيات الصبورات ليأخذ اطرافاً اصطناعية يزعم انها لأمه. هناك الطبيب الأسود الأميركي الذي يعاين النساء من وراء ثقب صغير في حاجز يقفن وراءه ويقف هو في الجهة الأخرى. والذي يساعد تافاس ويشرح لها بعض الأمور الغامضة... وهناك حواجز التفتيش التي لا تقل سوءاً عن حواجز التفتيش الإسرائيلية حيث يحاول احد الرجال ان يتخفى مرتدياً زي امرأة... ولكن امره ينكشف من عين الحاجز... ولا يخبر الفيلم اذا كانت تافاس وصلت الى شقيقتها ام لا... اذ ان النهاية تظل مفتوحة... وعلى كل حال، فهذه هي اقل الحكايات مأسوية. لأن افغانستان هي الحكاية المأسوية الدموية والجحيم الذي لا يمكن تصوره... وقد ساعدنا هذا الفيلم لندرك ان الجحيم نفسه قد يكون اقل وطأة من جحيم افغانستان. الفيلمان يحتفلان بالمرأة - المزارعة "تايجي" التي تقوم بكل شيء - اعمال المنزل والحقل وبيع المحاصيل فيما زوجها غائب يبحث عن عمل - وتافاس المرأة الجريئة التي تتقن الإنكليزية وتضطر الى ارتداء الخيمة الأفغانية من اجل التخفي باحثة عن شقيقتها المهددة. وربما كان مجرد صدفة اختيار هذين الفيلمين حيث البطلة امرأة - ولكنها صدفة طيبة ما دمنا نحتفل هذه الأيام بعيد الأم والمرأة في العالم...