بعد عام من توليه الحكم أعلن شارون في خطابه الى الاسرائيليين يوم 21 شباط فبراير 2002 ان المجلس الوزاري المصغر قرر اقامة "مناطق عازلة" بين اسرائيل والأراضي الفلسطينية. علماً انه منذ عام 1967 ظل يعارض مبدأ الفصل "الجيوسياسي" بين الشعبين. وفي سياق حملته الانتخابية للفوز بمنصب رئاسة الوزراء، اتهم شارون منافسه "باراك" زعيم حزب العمل السابق، بالتخاذل في مواجهة الارهاب الفلسطيني والاستسلام أمام شروط عرفات ومطالبه. وشن حملة قوية ضد أطروحة قيادة حزبه حول "الفصل بين الشعبين باتفاق" التي طرحت في مفاوضات كامب ديفيد ومحادثات طابا. خصوصاً انها تنطلق من دولتين للشعبين وتعتمد حدود 5 حزيران 1967 اساساً لرسم الحدود بين اسرائيل والدولة الفلسطينية. وتقسم القدس، وتعطي الفلسطينيين 96 في المئة من أراضي الضفة وقطاع غزة، وتتضمن اخلاء عدد كبير من المستوطنات وتجميعها في ثلاثة تجمعات رئيسية. واعتبرها شارون خضوعاً للارهاب وتفريطاً بحقوق منحها الله لبني اسرائيل، وتعرض أمن اسرائيل لأخطار استراتيجية. وتعهد علناً بالقضاء على الارهاب خلال فترة وجيزة من دون اللجوء الى الفصل. وقال: "أنا لا أفرق مستوطنة نتسريم الموجودة في قلب قطاع غزة عن مدينة كفار سابا المجاورة لمدينة تل ابيب". وعندما سُئل شارون عن التنازلات المؤلمة التي يمكن ان يقدم عليها من أجل السلام مع الفلسطينيين، أجاب في حينه: "عندما أتحدث عن تنازلات فإنني أقصد بذلك عدم احتلال مدن نابلس واريحا ورام الله وسواها من جديد. وهذا في نظري تنازل مؤلم جداً، لأن جميع هذه الأماكن هو مهد ميلاد الشعب اليهودي، وأنا لا أعرف شعباً في العالم تنازل عن كنوزه التاريخية القومية إلا اذا هزم في الحرب ونحن لم نهزم بل انتصرنا". وغمز من قناة "اسحق رابين" رئيس وزراء اسرائيل الأسبق، ورفض قوله في اعقاب عملية "بيت ليد" التي نفذت مطلع عام 1995 وقتل فيها أكثر من 20 جندياً اسرائيلياً، "إننا نعمل بجد ونشاط من أجل الانفصال عن الشعب الآخر وسنصل لهذه الغاية ان عاجلاً أو آجلاً". بعد فوزه بالانتخابات، لم يتطرق شارون في برنامجه الحكومي الى مسألة "الفصل بين الشعبين" واقامة "مناطق عازلة". وظل يتحدث ضد الفصل بين اسرائيل والأراضي الفلسطينية، ورفض خطة تفصيلية "للفصل" قدمها قسم التخطيط في الجيش الاسرائيلي بعد ستة اشهر من وجوده في مبنى رئاسة الوزراء وشكك في نجاعتها، وخشي ان يتهمه اليمين برسم حدود الدولة العبرية، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تزال من دون حدود رسمية. وطرح شارون فكرة حل مرحلي طويل الأمد ووافق على اقامة دولة فلسطينية على 42 في المئة من الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 1967. وبصرف النظر عن مواقف الاسرائيليين من خطاب شارون الذي تمحور حول دعوة "شعب الجبارين" للصمود، فأطروحته الجديدة حول اقامة "مناطق عازلة" لمكافحة "الارهاب الفلسطيني" تتضمن تراجعاً عن مواقف سابقة، اضطر له بعد فشل جميع الوسائل العسكرية التي استخدمها الدبابات والطائرات والاغتيالات والحصار والاغلاق واحتلال مناطق ألف... في توفير الأمن للاسرائيليين. وعلى رغم ان شارون غلف فكرة المناطق العازلة بالغمو ض ولم يحدد مواقع هذه المناطق وطولها أو عرضها، ولم يتطرق الى مصير بقية الأراضي الفلسطينية، وسبل عزل وفصل المستوطنات عن محيطها، الا ان غلاة اليمين الاسرائيلي المتطرف، علمانيين ومتدينين في ليكود وحزب المفدال الديني المتطرف، وحزب اسرائيل بيتنا بزعامة ليبرمان، وحزب رحبعام زئيفي داعية الترانسفير للفلسطينيين، وتجمعات المستوطنين... الخ عارضوا الفكرة وشنوا هجوماً علنياً ضدها. واتهموا شارون بالاستسلام امام الارهاب الفلسطيني، وتبني أفكار حزب العمل الداعية الى التخلي عن يهودا والسامرا "أرض الميعاد التي منحها الرب لبني اسرائيل" وتغليف استسلامه بشعار "فصل أمني وليس جيوسياسي"". والى جانب معار ضة اليمين، تواجه أطروحة شارون بناء مناطق عازلة اشكالات عملية كثيرة تفقدها نجاعتها، وتجعلها مخرجاً وهمياً يزيد في تدهور الوضع الأمني عند الجانبين، أهمها: 1- ستحتاج اسرائيل في المرحلة الأولى من خطة شارون، الى بناء سياج أمني وأسوار الكترونية وحواجز خرسانية ومواقع مراقبة ثابتة في مناطق طولها لا يقل عن 200 كلم، تمتد من "جلبوع" شمال الضفة الى مرتفعات الخليل جنوبها. وبينت دراسات "لجان الفصل" التي شكلتها الحكومات السابقة، خصوصاً اللجنة التي شكلت في عهد رابين وترأسها وزير الشرطة "شاحاك" وضمت وزير المالية "شوحاط" ومندوباً عن هيئة الأركان العامة للجيش، أن العملية معقدة جداً وكلفتها المالية باهظة وانجازها يتطلب وقتاً طويلاً. وفي شأن نتائجها المحتملة على الأوضاع الأمنية التكتيكية والاستراتيجية اكدت الدراسات ان خطة الفصل قادرة على تقليص عمليات التسلل الى داخل اسرائيل، لكنها لا تنهيها كلياً. ترفع في نسبة الأمن، لكنها لاتحققه كاملاً ولا تقضي على العمليات الانتحارية وقصف الهاونات وما يشببها. خصوصاً اذا نفذت الخطة من جانب واحد. واكدت تجربة العزل المفروضة على قطاع غزة منذ مدة صحة هذا الاستخلاص. واضطر الجيش الاسرائيلي الى اقتحام مناطق فلسطينية مأهولة بالسكان في رفح وغزة رداً على عمليات نفذها فلسطينيون اخترقوا سياجاً يشبه السياج الذي ينوي شارون بناءه في الضفة. 2- أظن ان شارون يرفض من حيث المبدأ فكرة فصل القدسالشرقية عن الغربية سواء ببناء جدار أو بالاسلاك الشائكة. ويعرف شارون اكثر من سواه ان حشد آلاف الجنود ورجال المخابرات واغلاق الشوارع بين شقي المدينة، وخطة "تغليف القدس الكبرى" بالموانع والحواجز الثابتة والطيارة لم يمنع القوى الفلسطينية في العام الأخير من تنفيذ سلسلة عمليات كبيرة وصغيرة في شوارع القدس الغربية الرئيسية قتل فيها وعلى أبواب البؤر الاستيطانية المنتشرة في القدسالشرقية عشرات الاسرائيليين. وبديهي القول ان تداخل المستوطنات مع الاحياء العربية جعل "الفصل الأمني" بين الجانبين أمراً شبه مستحيل. وإذا كان شارون وأركانه الأمنيون ورئيس بلدية القدس "أولمرت" لا يستطيعون، لاعتبارات كثيرة، تطبيق سياسة التهجير الجماعي، فإن وجود قرابة 300 ألف فلسطيني ضمن نطاق "القدس الكبرى" يحمل معظمهم الجنسية الاسرائيلية كفيل بنسف خطة شارون من أساسها. 3- لم يتطرق شارون في حديثه عن المناطق العازلة الى مصير وسبل التعاطي مع مئات ألوف الفلسطينيين الذين يعيشون في مدن قلقيلية وطولكرم وجنين وعشرات القرى والبلدات الواقعة على الخط الأخضر مباشرة. لقد جرب باراك قبل الانتفاضة وبعدها فصل هذه المدن والبلدات عن اسرائيل، وقام الجيش الاسرائيلي، من جانب واحد وبهدوء، باجراءات عملية على الأر ض لفصلها عن اسرائيل. وطور بنيان السياج الأمني وأجرى تعديلات طفيفة على الحدود في أكثر من مكان، ونقل سبعة حواجز عسكرية الى مواقع جديدة شرقي حدود عام 1967، لكن جميع هذه الاجراءات فشل في منع بضع آلاف من العمال الفلسطينيين من التسلل للعمل في اسرائيل أقام بعضهم فيها أسابيع وشهوراً طويلة. ونجحت جميع التشكيلات العسكرية الفلسطينية في اختراق اجراءات الجيش والشرطة وحرس الحدود، ووصل "الانتحاريون" وغيرهم مرات عدة الى قلب حيفا والخضيرة والعفولة وتل ابيب. 4- لم تعالج خطة شارون معضلة أمن المستوطنين والمستوطنات المنتشرة في كل أنحاء الضفة وقطاع غزة، ويرفض اخلاء اي مستوطنة صغيرة أو كبيرة. واذا كان بامكان الجيش الاسرائيلي اقامة مناطق عازلة على طول حدود 1967، فهذا أمر يستحيل تحقيقه في محيط المستوطنات. خصوصاً ان بعضها بني داخل مدن فلسطينية مثل القدس والخليل، وكثير منها مثل بيت ايل وكريات أربع وألفي منشة وارانيل وكرني شمرون... الخ ملاصق لمدن وقرى فلسطينية، ولا مجال لبناء مناطق عازلة بينها. أعتقد ان هذه النواقص والثغرات الاساسية وسواها في خطة "بناء المناطق العازلة" كافية لتحويل حلم شارون بتحقيق الأمن في بقية عهده الى وهم خادع، شبيه بوهم فرض الاستسلام على الفلسطينيين الذي خدع به الاسرائيليين في العام الأول من حكمه. ووهم آخر دام 20 عاماً بناه أركان المؤسسة الأمنية على المنطقة العازلة الشاسعة التي أقاموها في جنوبلبنان. لقد خدع شارون الاسرائيليين عام 1982 وغزا لبنان وورط الجيش الاسرائيلي في حرب خرج منها مهزوماً، ولن يتأخر أغلبية الاسرائيليين في إدراك مخاطر اطروحة شارون الجديدة. واذا كان هدف شارون، غير المعلن، رسم خريطة الحل النهائي تحت ستار بناء المناطق الأمنية العازلة، فالشروع في تنفيذ هذا المشروع يقضي على فكرة السلام العربي - الاسرائيلي ويؤجج الصراع في المنطقة ويوسع دائرة العنف على أرض فلسطين التاريخية. وفي كل الاحوال لا مناص من متابعة العمل من أجل احداث تغيير في موقف الشارع الاسرائيلي، واقناعه بأن حل النزاع "الجيوسياسي" المتعلق بالأرض والحدود والمستوطنات بالقوة يديم النزاع. وان أمن اسرائيل يتحقق عبر سياج السلام وحده وليس ببناء مناطق عازلة. والمبادرة السعودية الجديدة توفر فرصة ثمينة للاسرائيليين للتخلص من الأوهام والشروع في بناء هذا السياج. * كاتب فلسطيني.