أينما جلسنا أو وقفنا، تنقلنا بين كافتيريا مطار القاهرة الدولي أو سوقه الحرة، توجهنا إلى دورة المياه أو صالة السفر، كان جورج البهجوري يرسم خطوطاً كاريكاتيرية سريعة لكل وجه يقابله. وهو يملأ بطاقة المغادرة أمام النافذة ويكتب في خانة المهنة رسام عالمي ويرسم نفسه مع توقيعه الكبير الذي نعرفه. وضابط الجوازات يتقبل البطاقة ويبتسم. في الطائرة كنا، الروائي محمد البساطي، والسينمائي علي أبو شادي والتشكيلي جميل شفيق، والموسيقي فتحي الخميسي، والشاعر إبراهيم داود، نجلس متجاورين. والمضيفة سألتنا عما نشربه من شاي وقهوة. البهجوري، بهدوئه الجميل، وملامحه التي لا تخلو من أسى، طلب بالفرنسية مشروباً معروفاً جداً وغير مسموح به على الخطوط الجوية الكويتية، وعندما بان الذهول على وجه المضيفة اعتذر وطلب مشروباً آخر أكثر رقياً وغير مسموح به أبداً على نفس الخطوط. وبينما راحت تشاركنا الضحك كان هو انتهى من رسمها على ظهر ورقة مكتوب أهداها لها. والمضيفة تأملت الورقة باحثة عن الشيء الذي يشبهها في هذه الخطوط ثم انتبهت أن عليها أن تشكره، ممتنة، وتنصرف. منذ تلك اللحظة وحتى مغادرته الشاليه الذي دعانا إليه رفيق القصة الستينية ورجل الأعمال محمد الشارخ أبو فهد لم يتوقف بهجوري أبداً عن الرسم. وهو غادر إلى القاهرة قبل يومين من سفرنا من أجل حضور زفاف ابنة شقيقته. في عتمة المساء يخبرنا الشارخ عن اتصاله بإبراهيم منصور الذي غاب هذه المرّة، والذي كان يرفض الحديث مع أي واحد آخر. ونشعر جميعاً بالاطمئنان ويحدونا أمل. الأمانة تقتضي القول إنني أكثر ارتياحاً في هذا المكان. لم يعد خافياً أن أبناء الستينات يتعرضون هذه الأيام إلى قصف مباشر ومباغت من وعكات محرمة دولياً لازمها رحيل مؤكد لعدد من الرفاق والأصدقاء الأعزاء. في مثل هذه الحالات لا يكون مجدياً للإنسان أن يجلس، أو يقف، مكتوف اليدين، لذلك ضاعت أوقات الفراغ كلها بالتفكير في ذلك المكان الذي يمكنني أن أختفي فيه بعيداً من مسرح العمليات، إذ ربما أمكن التوصل إلى هدنة معقولة تحترمها الأطراف. في قلب هذه المشاغل جاءت الدعوة إلى هذا الشاليه القائم على شاطئ الخليج، على مبعدة 80 كيلومتراً تقريباً من مدينة الكويت عندما دعتنا السيدة أم فهد للغداء هناك في أحد المطاعم الراقية لمحت بعض الوجوه الحمر والرؤوس الحليقة لرجال المارينز. يجلس بهجوري، إذاً، في شمس الشتاء وهو يضع ساقاً، رغم قصرها، على ساق، كراسة الرسم مفتوحة على ركبته، والريشة النحيلة السوداء بين أصابعه الدقيقة، يختلس النظر إلى هذا الوجه أو ذاك. هناك، في مقدمة الساحة الكبيرة المرصوفة، والمُسيّجة بأشجار الكينا كامبس بحسب ما يدعي جميل شفيق، الصغيرة المجلوبة من السعودية والتي تتوسط مرأب اليخت في الناحية المقابلة لمرأب السيارات المكشوف ومبنى المطابخ ومقر العزيز كاظم مسؤول العلاقات العامة والحالات المستعصية في هذه المنطقة وما جاوزها، أو أنه يجلس، أعني بهجوري أيضاً، في واحدة من قاعات الشاليهات الكبرى الثلاث الملمومة ستائرها الثقيلة وراء جدرانها الزجاجية المفتوحة على زرقة الماء حتى الأفق البعيد الأبيض، أو المشبع بالرماد. بهجوري لا يكتفي بالرسم طيلة الليل وآناء النهار، طبعاً. إنه يرفع وجهه فجأة ليطرح ملاحظة أو أخرى. يتحدث مثلاً عندما عاد من باريس إلى القاهرة بعد غيبة، ووجد بالمترو عربة شبه خالية صعد إليها واستقر. ثم يصمت قليلاً ليعلو وجهه الكدر وقد عاودته الذكرى الأليمة كاملة، ويشير، من طرف خفي، إلى ما تعرض له مهانة بعدما ضبطوه وهو يجلس هكذا مطمئناً، هو الرجل المسن، بثياب ملونة، وشعر أشيب مدلى على الكتفين، في عربة خصصت للحريم فقط، محجبات كن أو شبه حاسرات، يقول، بقلب مثقل، عن الطريقة التي عاملته بها جماهير المنطقة، أن الأسلوب هذا، لم يكن موجوداً أبداً، أيام زمان. وبهجوري، بالطبع، فنان كبير ورجل طلعة، لم يمنعه أحد من نشر كتابين جميلين: أيقونة فلتس وأيقونة الفن لذلك طرأت عليه هموم تتعلق بعملية الكتابة التي يراها لا تخلو خفايا تستوجب السؤال. هو يؤكد أكثر من مرة، ولو من باب خفي، أن ما كتبه ليس من قبيل السيرة الذاتية لكنها أعمالٌ روائية فيما يهز رأسه مؤكداً ومعبراً عن رغبته الاستفادة من تجربة كتابها الرواية بما أن بعضهم موجود. يقول فجأة، وليس على سبيل المثال: "يا ترى، لو سمحتم، ما هو الفرق بين الحكي والثرثرة ؟". وتمضي فترة من صمت يقطعها إبراهيم داود قائلاً: "الفن". بهجوري يبدو عليه التردد لأن من أجاب شاعر وليس روائياً، وعندما لا يعلق أحدنا لا يجد مفراً من القول: "جميل جداً. جميل". وهو ينتحي بي جانباً ليسر في أذني اليمنى أنه حضر مناقشة رسالة للدكتوراه في جامعة السوربون لكاتب صديق أعرفه، لم يكن يعي كلمة واحدة من الفرنسية التي كتب بها رسالته، وأن موقفاً حرجاً ترتب على ذلك، خصوصاً عندما طلب أحد الأساتذة من الباحث أن يفتح الرسالة على صفحة كذا، وصديقنا الباحث لا يفتح الصفحة لأنه لا يفهم ما يقوله الأستاذ الفرنسي، وأن الوضع ظل ماثلاً، هذا يطلب والآخر يتطلع صامتاً، حتى تدخل المشرف لينقذ الموقف داخل القاعة. أخبرني بهجوري أنه، في كتابه الذي يعكف عليه الآن ويخصصه لسنواته الباريسية، يريد أن يتكلم عن ظاهرة مثل هؤلاء الدارسين: "في تقديرك الشخصي، هذا الأمر يجوز، من الجانب الأخلاقي؟". أقول له أن كل شيء، في الكتابة، يجوز، لذلك عليه أن يكتب ما حدث مع إغفال الاسم تماماً. يخبرني أنه سعيد جداً برأيي لأنه لم يفكر أبداً أن يذكره. ثم انه يسأل البساطي، في مرة أخرى، باعتباره صاحب خبرة معلومة، عن أحسن طريقة لكتابة الرواية. وعندما بدا له وكان البساطي رجل لا يفهم، قال: "يعني في رأيك، ما هي أفضل طريقة لكتابة الرواية؟ كتابتها باليد، أو بالكومبيوتر، أم أن عند الأستاذ البساطي اقتراح آخر؟". البساطي قال، بأريحية واضحة، انه شخصياً يكتب الرواية كلها بيده، وبعد ذلك يكتبها على الكومبيوتر. "يعني في رأيك، إن هذا أفضل شيء؟". "هو أفضل طبعاً". وبهجوري يريح كراسة الرسم على حجره ويوضح لنفسه: "بعد ما اكتب بالقلم، أكتب على الكومبيوتر؟". البساطي يعتبر التوضيح للنفس سؤالاً ويجيب: "أفضل". وتمر فترة. بهجوري يحدث نفسه قائلاً، وهو غاية في اليقين: "فعلاً. أنا عندي مشكلة كبيرة جداً". والبساطي يتدخل: "ليه؟". "لأن أنا ما اعرفش أكتب على الكومبيوتر". "يا سيدي مش انت اللي تكتب، فيه ناس تديهم الكتاب وهم يكتبوه". "يا سلام؟" "طبعاً". "شيء عجيب". "لا عجيب ولا حاجة. كلنا بنعمل كده". "وينفع؟". "ينفع ونص". "والناس دي فين يا ترى؟". "أي ناس؟". "إللي بيكتبوا على الكومبيوتر؟" "في كل مكان. شوارع القاهرة مليانة". بهجوري يعدل طاقيته على شعره المدلى. بعد قليل، يبحث في جيوبه، ويمد يده إلى البساطي: "الكارت ده فيه تليفوناتي كلها، في مصر وباريس، أرجوك يا أستاذ محمد، أول ما توصل تتصل بي، وتديني عنوانهم؟". "عنوان مين؟". "عنوان الناس اللي بتكتب على الكومبيوتر". البساطي يأخذ البطاقة، يتفرج على الكتابة، ويلتفت إلي. ويكون وبهجوري الآن عاكف على عمله، كأي طفل وديع عنده لحية، وقاعد يرسم على روحه. شباط فبراير 2004