منذ أن أعلنت الإدارة الأمريكية في الشهر الماضي عن البدء في استطلاع آراء عدد من الدول العربية في "مبادرة الشرق الأوسط الكبير" التي تهدف إلى تحقيق إصلاحات سياسية، وتعليمية، واجتماعية، واقتصادية في منطقة الشرق الأوسط، قبل عرض المبادرة على قمة الدول الثماني الصناعية الكبرى في يونيو القادم، لم يتوقف الجدل السياسي حول تلك المبادرة في العالم العربي.ففي حين استقبلها عدد من كبار المسؤولين العرب بالانتقاد المستند أساسا إلى فكرة أن الولاياتالمتحدة لا تستطيع تصدير أنظمة ديمقراطية جاهزة إلى الدول العربية، وانتقادات أخرى تشير إلى اعتماد المبادرة على تقريري التنمية البشرية في العالم العربي للأمم المتحدة بشكل انتقائي ركّز على نواقص يعاني منها العالم العربي في مجالات الحرية والمعرفة وتمكين المرأة، فيما أهملت المبادرة تأكيد تقرير التنمية البشرية على أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية يشكّل أهم التحديات التي تواجه الإصلاح في العالم العربي.كما عبر المثقفون والنشطون المهتمّون بدفع مسيرة الإصلاح في العالم العربي عن تخوفهم من أن يتّخذ البعض كون المبادرة مصنوعة في أمريكا مبررا لربط الدعوة للتحول الديمقراطي والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية بالتدخل الخارجي، بهدف خلق حالة من الاستنفار ضد مبدأ الإصلاح نفسه.وأمام سيل الانتقادات التي وصلت إلى حد اتهام المبادرة بأنها ترقى إلى مستوى اتفاقية سايكس بيكو، التي قسمت الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ بين فرنسا وبريطانيا في عام 1916، تكرّرت التأكيدات الأمريكية على أن المبادرة ليست تصورا مفروضا، وإنما هي مجموعة من الاقتراحات للإصلاح ومساعدة دول وحكومات الشرق الأوسط على اللحاق بالدول والشعوب الأخرى التي تمكّنت من تحقيق التقدم والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ويرى السفير إدوارد ووكر، المساعد السابق لوزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى، والرئيس الحالي لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن أن إدارة الرئيس بوش أساءت للمرة الثانية الى تقديم مبادرة تستجيب لرغبات الشعوب العربية في التحول إلى الديمقراطية، وزيادة الفرص الاقتصادية، واللّحاق بمسيرة التقدم للتمكّن من المنافسة في عالم اليوم. ردود فعل سلبية ففي المرة الأولى طرحت قبل عامين ما سُمي مبادرة الشراكة مع شعوب وحكومات الشرق الأوسط ولم تنجح، لأنها كانت مبادرة مصنوعة في أمريكا ورصدت لها اعتمادات ضئيلة، بحيث يديرها وينفّذها أمريكيون، وعندما أدركت إدارة الرئيس بوش أنه من الأفضل أن تطرح مبادرة أكبر وأشمل تسعى فيها إلى الشراكة مع المجتمع الأوروبي والدول العربية لتشعر الأطراف العربية بأنها تمتلك مقدرات التغيير والإصلاح وقعت في خطأ تقديمها كتصور أمريكي.وعندما سربت إحدى الدول الأوروبية النص الأمريكي المقترح، الذي كان من المُفترض مناقشته وتقييمه انتظارا لمؤتمر الإصلاح العربي في الإسكندرية، ثم انتظار موقف القمة العربية في تونس إزاء الأفكار الخاصة بكيفية مساعدة دول المنطقة على تحقيق الإصلاح المنشود في العالم العربي، وضع ذلك التسريب مبادرة الشرق الأوسط الكبير في مأزق كبير، حيث بدا للعالم العربي وكأن المبادرة خطة أمريكية سيتم فرضها على العالم العربي.وأعرب السفير ووكر عن اعتقاده بأن تسمية المبادرة بالشرق الأوسط الكبير أدى إلى تصور خاطئ بأنها تقدم نموذجا واحدا للإصلاح يتجاهل الخصوصيات والفروق بين ظروف دولة كالمغرب في أقصى غرب المنطقة، وبين دولة مثل أفغانستان في أقصى التعريف الجديد للشرق الأوسط الكبير. وأضاف السفير ووكر أن تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين حول اعتزام الولاياتالمتحدة إقامة الديمقراطية في العراق كنموذج للديمقراطية على الطريقة الأمريكية يمكن أن تحتذي به دول المنطقة، أدى إلى تصور أن الولاياتالمتحدة ستفرض الإصلاحات الديمقراطية على باقي دول المنطقة، وهو ما أعطى نموذجا سيئا لما تضمره الولاياتالمتحدة، وأسفر عن ردود فعل سلبية رافضة لمبادرة يُفترض أنها جاءت كمقترحات أمريكية تنتظر إضافة مقترحات عربية وأوروبية ودولية للمساعدة في المضي قُدما بخطط الإصلاح في المنطقة. شروط بيع الديمقراطية للعالم العربي ويرى زبجنيو بريجينسكي، المستشار الأسبق للرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي أن إدارة الرئيس بوش استخدمت أسلوبا خاطئا في محاولتها بيع الديمقراطية والترويج لها في العالم العربي، وبدأ الخطأ باختيار الرئيس بوش طرح تلك المبادرة في خطاب مُفعم بالمشاعر أمام معهد أمريكان "إنتربرايز" معقل صقور الحرب في العراق، وهو معهد لا يُبدي تعاطفا مع العرب. وساد الاعتقاد بأن المبادرة ستنطوي على أن أمريكا بمساعدة أوروبا وبمساندة من إسرائيل ستُعلّم العالم العربي كيف يُصبح عصريا وديمقراطيا، إلى ردود فعل سلبية في العالم العربي الذي مازال يحتفظ بذكريات أليمة للهيمنة البريطانية والفرنسية. وأثارت المبادرة مخاوف بأنها، وإن جاءت في ثوب مقترحات للاختيار، فإنها غير بعيدة عن سيناريوهات الفرض من الخارج. وعلى صعيد آخر، يرى الخبير الاستراتيجي الامريكي ان التحول الديمقراطي في العالم العربي الذي تروح له المبادرة يمكن ان يسفر عن نتائج غير مستهدفة، إذ يمكن ان تسفر الانتخابات الحرة في أراضي السلطة الفلسطينية عن انتخاب زعيم حركة حماس. ويعتقد السيد بريجينسكي أن ما عقّد استقبال مبادرة الشرق الأوسط الكبير تَشكّك الدول العربية، بل والأوروبيين في أن الاهتمام المفاجئ من إدارة الرئيس بوش بالديمقراطية في الشرق الأوسط يرجع إلى رغبة الإدارة في تأجيل القيام بأي دور نشط في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وتعمّقت تلك الشكوك عندما صرّح ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي بأن الإصلاح الديمقراطي في الشرق الأوسط هو شرط لازم للتوصل إلى تسوية سلمية للصراع العربي الإسرائيلي الطويل الأمد. ووصف بريجينسكي تصريح تشيني بأنه يتجاهل حقيقة تاريخية مفادها أن الديمقراطية لا تنتعش إلا في مناخ من الكرامة السياسية. ولذلك، فإن الفلسطينيين لن يشعروا بجاذبية الديمقراطية، طالما رزحوا تحت ذل السيطرة الإسرائيلية وتعرضوا للإهانة بشكل يومي. وينطبق نفس الوضع على العراقيين الذين يُعانون وطأة الاحتلال الأمريكي.واقترح مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق ثلاثة شروط لنجاح مبادرة الشرق الأوسط الجديد أولا، أن يتم تطويرها بالتعاون مع الدول العربية، لا أن تُقدم لهم كصيغة أمريكية. ثانيا، أن تعترف المبادرة بأنه بدون توفّر الكرامة السياسية النابعة من حق تقرير المصير، فلن يُمكن إقامة الديمقراطية، وبالتالي، يجب أن تقترن المبادرة بجهود حقيقية لمنح العراقيين والفلسطينيين سيادتهم. ثالثا، أن تضع الولاياتالمتحدة أُسُس مضمون تسوية سلمية في الشرق الأوسط، ثم تشرع في وضعها موضع التنفيذ. ويتفق الدكتور جوزيف سيسكو، الوكيل السابق لوزارة الخارجية الأمريكية مع الدكتور بريجينسكي في ضرورة التشاور مع الدول العربية حول سُبل المساعدة التي تحتاج إليها للمضي قُدما بخطط التحول الديمقراطي وبرامج الإصلاح، بدلا من أن تسلمها تصورا أمريكيا قد يحظى بمساندة قمة الدول الصناعية أو المجتمع الأوروبي. كما يتفق سيسكو مع الدكتور بريجينسكي في ضرورة الإقرار بحق تقرير المصير لشعوب المنطقة، خاصة الشعبين العراقي والفلسطيني، ويقول: "إن ذلك الإقرار يساعد في إزالة الحاجز النفسي بين الشعوب العربية والغرب الذي يستند إلى شعور بانتقاص الغرب لكرامتهم عن طريق الاحتلال الأجنبي". لا بديل عن السلام الشامل وقال الدكتور سيسكو: إن أول خطوة على هذا الطريق هي الشعور بالحرية كمقدمة للديمقراطية. ولذلك، يجب إقرار حقوق الشعوب العربية في تقرير مصيرها، خاصة الشعب الفلسطيني. غير أنه يرى كذلك أن أحد أهم عناصر استعادة الكرامة في العالم العربي هو إحداث مستوى من النمو الاقتصادي في المجتمعات العربية، بحيث تتحسّن الأحوال المعيشية اليومية للمواطن العربي، وحينما يَأمن على رغيفه، سيتمكّن من الشعور بالحرية والرغبة في ممارسة حقوقه السياسية.واختلف الدكتور سيسكو مع الدكتور زبجنيو بريجينسكي، المستشار السابق لشؤون الأمن القومي الأمريكي فيما يتعلّق بالشرط الثالث لنجاح المبادرة وقال لسويس إنفو: لقد مررت بخبرات واسعة في التعامل مع جهود أمريكا للتسوية السلمية في الشرق الأوسط. فقد أوفدني الرئيس كمبعوث إلى الشرق الأوسط لطرح ما كان يُعرف بمبادرة روجرز وتعلّمت من تلك التجربة أنه رغم أن بوسع الولاياتالمتحدة أن تقدم أفكارا للتسوية، إلا أنها لا تستطيع فرضها على طرفي النزاع. والسيد بريجينسكي يرمي من ذلك الشرط إلى أن تعد الولاياتالمتحدة اتفاق سلام للشرق الأوسط وتفرضه على الطرفين، وهذا شيء مستحيل. فكما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل اسحق رابين، إن من يصوغ اتفاق السلام هما الطرفان اللذان سيعيشان معا في سلام وفقا لذلك الاتفاق.غير أن الدكتور سيسكو يُقر بأنه لن يمكن للولايات المتحدة من خلال مبادرة الشرق الأوسط الكبير أن تنجز مهمة إدماج إسرائيل في شرق أوسط أكبر يضم إلى العالم العربي دولا أخرى، كإيران وتركيا وأفغانستان وباكستان، إلا إذا دخلت إسرائيل في اتفاق سلام شامل ينهي الصراع العربي الإسرائيلي، حيث ان السلام والديمقراطية يجب أن يسيرا يدا بيد.ولكن الخبير الأمريكي المخضرم يستبعد تحقيق تقدم سريع في عملية السلام، ليس بسبب سنة الانتخابات الأمريكية فحسب، وإنما أيضا لاتّساع الفجوة التي تفصِل بين مواقف الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي جراء العنف المتبادل والعمليات الانتحارية، وأيضا بسبب الجدار الفاصل الذي اضطرت الحكومة الأمريكية إلى الدخول في حوار حوله مع المسؤولين الإسرائيليين حتى لا يقتطع المزيد من الأراضي الفلسطينية، وللتأكد من أن مثل ذلك الجدار لن يُحدد خطوط الحدود الدائمة بين الطرفين. @@ شيكاغو تربيون