في مواجهة مطالبات واشنطن باصلاح أنظمتهم السياسية، يطالب المسؤولون العرب واشنطن بتسوية الصراع العربي - الإسرائيلي كشرط لاستجابة استحقاق الإصلاح، وكأن الدول العربية، من المحيط إلى الخليج، تخوض حرباً عسكرية حقيقية ضد إسرائيل. ولم يشرح لنا أي من هؤلاء المسؤولين، كيف أعاق ويعيق الصراع العربي - الإسرائيلي المفترض، وهو لم يعد أكثر من صراع فلسطيني - إسرائيلي، عملية الإصلاح في العالم العربي. ولم يشرحوا لنا كيف تمكنت إسرائيل، التي خاضت خمس حروب عربية على مدى أكثر من نصف قرن منذ انشائها، من إقامة نظام ديموقراطي لشعبها، من دون أن تتذرع بالصراع مع العرب، لإحباط ديموقراطية انشأتها وسط غبار الحرب بعيد إقامة الدولة العام 8491. الحال هي ان إسرائيل استفادت من ديموقراطيتها لكسب تأييد العالم الغربي في صراعها مع العرب. وأهم من ذلك، استفادت من الديموقراطية لجعل كل إسرائيلي شريكاً في القرار لمواجهة التهديد العربي، الحقيقي منه والمزعوم، فيما انشغلت الأنظمة العربية في قمع شعوبها الساعية إلى الديموقراطية بعد فشلها في مواجهة إسرائيل لأسباب من بينها أنها أنظمة غير ديموقراطية. ثم يأتي المسؤولون العرب اليوم ليقولوا لنا انهم يرفضون فرض الديموقراطية من الخارج، وكأنهم كانوا يوماً على استعداد لاستجابة المطالبات بالديموقراطية من الداخل. ثمة شكوك مشروعة في جدية أميركا ومشروعها للشرق الأوسط الكبير. وتتركز تلك الشكوك، بشكل خاص، لدى الإصلاحيين العرب، الذين شهدوا، على مدى نصف القرن الماضي، وما زالوا، عالماً غربياً مستعداً للتحالف مع أنظمة متخلفة ومستبدة وفاسدة، كوسيلة سهلة للمحافظة على المصالح الغربية الاستراتيجية في المنطقة، من دون الحاجة إلى اقناع الشعوب التي لا حول لها ولا قوة. إلا أن ذلك بدأ يتغير في عالم ما بعد 11 أيلول سبتمبر، على رغم أن عناصر التغيير نحو مقاربة أميركية وغربية جديدة للمنطقة ما زالت تتبلور ببطء لأسباب ليس أقلها أهمية أن القوى المناوئة للتغيير في البيروقراطيات الغربية ما زالت تقاوم، وتكاد تعلن تحالفاً مع القوى المناوئة للإصلاح في العالم العربي. إلا أن المارد الغربي، بعد أفغانستان والعراق، خرج من القمقم، ويستبعد أن يعود إليه قبل أن يحدث تحولاً حقيقياً يمثل تجربة في الاتجاه المعاكس لما كان قائماً في العقود الماضية. اللافت في ما يجري اليوم هو أن الإدارة الأميركية، على غير عادتها، بدأت بداية صحيحة في توجهها نحو الإصلاح في الشرق الأوسط الكبير، إذ أعلنت حاجتها إلى تحالف مع الاتحاد الأوروبي والدول الكبرى في إطار مجموعة الثماني، وشراكة مع الحكومات العربية التي أبدت استعداداً للتعامل مع استحقاقات التغيير، في مقابل محفزات سياسية واقتصادية وأمنية ستحصل عليها الدول المتعاونة. كما توجه الجهد الأميركي في بداياته نحو الدول العربية الأكثر قابلية للإصلاح، كما عكست جولة مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية مارك غروسمان على كل من الأردن والمغرب ومصر والبحرين. إذ أن علاقة واشنطن الخاصة بتلك الدول، التي تعتبرها دولاً حليفة، فضلاً عن أنها من بين الدول التي بادرت إلى خطوات إصلاحية، تساعد على انطلاقة أكثر سلاسة للمشروع الاقليمي. ولا يمكن تجاهل حقيقة أن تلك الدول، وبخاصة الأردن ومصر، تتلقى مساعدات اقتصادية وعسكرية أميركية، ما يجعلها مرشحة لاطلاق الخطوات الأولى نحو التحول الديموقراطي في المنطقة بأقل قدر ممكن من المقاومة. اللافت أيضاً أن واشنطن اختارت تركيا نموذجاً يحتذى لإمكان التعايش بين الإسلام والديموقراطية، علماً أن النظام السياسي التركي، الذي تلعب فيه المؤسسة العسكرية دوراً أساسياً، لا يتماشى تماماً مع معايير الديموقراطية الغربية على الطريقة الأوروبية والأميركية. إلا أن واشنطن ترى في تركيا، التي صعد فيها الحزب الإسلامي المعارض بتوجهاته المعتدلة إلى السلطة، مثالاً معقولاً ومقبولاً، من دون تقويض الهيكل العام للدولة، وهو ما يشير إليه استمرار نفوذ المؤسسة العسكرية. وقد يكون ذلك من دواعي طمأنة دول المنطقة إلى أن واشنطن لا تسعى بالضرورة إلى انقلابات تودي بالأنظمة القائمة. فالهدف ليس التغيير لمجرد التغيير، بل التغيير من أجل إعادة تصويب مسار أدى إلى كوارث على نطاق عالمي من منظور غربي. من المفيد أن تتوقف دول المنطقة عن التحجج بالصراع العربي - الإسرائيلي وتبدأ ما بدأته إسرائيل قبل نصف قرن. إذ أن السياسات السابقة لم ولن تحرر فلسطين. وقد يكون من أضعف الايمان، تحرير بقية الشعوب العربية، فقد يساعد ذلك على تحرير الفلسطينيين.