بعد ثلاث سنوات على وفاة الشاعر اليمني عبدالله البردوني 1929 - 1999، عمدت الهيئة العامة للكتاب في صنعاء الى اصدار طبعة انيقة لديوان هذا الشاعر الذي كان له حضوره الخاص في الساحة الثقافية اليمنية على مدى عقود من الزمن. وقد صدر الديوان، في العام 2002، وضم اثنتي عشرة مجموعة شعرية، كانت طبعت في السابق متفرقة. وبقيت هنالك مجموعتان خارج الديوان، لم تلتحقا به، وإنما هما تحت الطبع كما جاء في تمهيد للديوان وردت فيه معلومات عن الشاعر ومؤلفاته. والمجموعتان المتبقيتان هما: "رحلة ابنِ منْ شاب قرْناها" و"العشق على مرافئ القمر". نذكر هنا ان دار العودة في بيروت كانت عمدت في العام 1986 الى اصدار ست مجموعات للشاعر في مجلدين، تحت عنوان "ديوان عبدالله البردوني". إذن، ديوان دار العودة ليس سوى نصف ديوان الهيئة العامة للكتاب. وهذا ليس بالغريب، فالشاعر كتب الكثير من القصائد بعد العام 1986، سنة إصدار ديوانه عن دار العودة، وذلك حتى وفاته في 1999. المجموعات الست التي كانت صدرت في ديوان دار العودة هي: "من ارض بلقيس"، "في طريق الفجر"، "مدينة الغد"، "لعيني ام بلقيس"، "السفر الى الأيام الخضر"، "وجوه دخانية في مرايا الليل". هذه المجموعات الست شكّلت المجلد الأول من الديوان الجديد، ديوان الهيئة العامة للكتاب. اما المجموعات الست الأخرى التي شكلت المجلد الثاني فهي: "زمان بلا نوعية"، "ترجمة رملية لأعراس الغبار"، "كائنات الشوق الآخر"، "رواغ المصابيح"، "جوّاب العصور"، "رجعة الحكيم بن زايد". إنه ديوان ضخم. اول ما يلفت منه حجمه الكبير، فعدد صفحاته في المجلدين يصل الى اكثر من 1750 صفحة. وقد صمم الغلاف ورسم لوحته الفنان اليمني حكيم العاقل. ونجد في مستهل الديوان ثلاث كلمات تمهيدية: الأولى كلمة عاطفية لرئيس الهيئة العامة للكتاب خالد عبدالله الرويشان بعنوان "بين يدي البردوني"، والثانية كلمة تعريفية بالشاعر ومؤلفاته كتبها الحارث بن الفضل الشميري، وكلمة ثالثة هي تقديم بقلم الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح. وهذا التقديم هو نفسه الذي ورد في مستهل الديوان الذي كانت اصدرته دار العودة في العام 1986. ولعل الأهم في تقديم المقالح للبردوني هو تركيزه على بعض النواحي الفنية التي ميزت شعره. بعد هذه المقدمة "التوثيقية"، ننتقل الى تسجيل بعض الملاحظات إزاء ديوان البردوني وما يمثله من قيمه شعرية: 1- في الناحية التأليفية الأسلوبية، نستطيع القول ان البردوني يعدّ واحداً من الشعراء العرب الذين اجادوا "النظم" اجادة واضحة، وحاولوا ان تكون هذه الإجادة سبيلاً الى التجديد، او مظهراً من مظاهره. لقد شعر هؤلاء الشعراء، الذين يعدُّ البردوني واحداً منهم، بأن القصيدة العربية ذات البناء الكلاسيكي او العمودي قد احتاجت - ابتداء من مطلع القرن العشرين - الى شيء من التغيير او التطوير في اساليب "النظم"، لكي تكون قادرة على استيعاب الموضوعات الجديدة التي اتت بها ظروف الحياة العربية المعاصرة المتأثرة بالغرب. ووجد هؤلاء الشعراء في إجادة النظم وتنويعه تنويعات شتى افضل طريقة لذاك الاستيعاب. وهذا الموقف هو جوهر الاتجاه الشعري الذي سُمي بالكلاسيكية الجديدة. وكان من ابرز ممثليه الجواهري وبدوي الجبل وأبو ريشة والبردوني. وظهرت اجادة البردوني للنظم في تطويله للقصائد، او بالأحرى في طول نَفَسِه، وكذلك في استخدامه لمختلف البحور الخليلية، وأحياناً في انتقائه لبحور صعبة او مهملة. كما تجلّت إجادته للنظم في سهولة تصرفه بالقوافي، وفي قدرته على الاسترسال في النظم على قوافٍ ليست بالهينة او الشائعة. وطول القصيدة عند البردوني اتاح له في الكثير من المرات ان ينحو منحى قصصياً. هذا كله يقودنا الى القول ان القصيدة عند البردوني تبدو لنا ميداناً لاستعراض الإمكانات اللغوية والبنائية والأسلوبية، تعبيراً عن إجادة في النظم، هي اساس العمل الفني لديه. 2- بناء على الملاحظة الأولى، نستطيع القول ان نزعة البردوني وأمثاله من الشعراء الى تحقيق شيء من التجديد من طريق التنويع في اجادة النظم لم تتجاوز هذا التنويع الى تحقيق ما هو جذري او مبتكر، في مستوى اللغة الشعرية من جهة، وفي مستوى الرؤى الشعرية من جهة ثانية. وهنا نستطيع ان نسجل للبردوني انه لم يُظهر ممانعة كبيرة لأطروحات الحداثة في الشعر العربي المعاصر، بل انه اظهر نوعاً من التعاطف معها في ثنايا عمله التأليفي من دون ان يكون لذلك اثر عميق على اسلوبه في النظم، الذي لم يتخلّ عن مقومات القصيدة العمودية. هذا كله كانت له انعكاساته على مضمون القصيدة عند البردوني، هذه القصيدة التي احتضنت الكثير من القضايا الوطنية والسياسية والاجتماعية... وغيرها، إلا انها في ذلك لم تتعدّ حدود الأحداث الآنية او العابرة. ان التحفظ إزاء التغيير الجذري في المقومات البنائية للقصيدة هو نفسه التحفظ إزاء مضمون هذه القصيدة، اي ازاء محمولاتها من الأفكار والمواقف والتصورات... وما إلى ذلك. 3- معظم قصائد البردوني، وخصوصاً الطويلة منها، حاولت ان تواكب ما كان يجري في اليمن او في غيره من البلدان العربية، وبعضها انطوى على وقائع من الماضي. بكلمة اخرى نستطيع القول ان قصائد كثيرة للبردوني تنطوي على قيم توثيقية، تاريخية او سياسية او اجتماعية او غير ذلك. 4- في قصائد البردوني حسّ نقدي، وخصوصاً في تلك التي تتناول الأوضاع السياسية او الاجتماعية. والبردوني يُحوّل حسه النقدي الى مواقف يعبّر عنها في قصائده إزاء هذا الشأن او ذاك. وكثيراً ما تتميز مواقفه النقدية بالتوتر والحدة، فهو ينحو حيال ما ينتقده منحى المجابهة وعدم المهادنة. ويمتزج نقده - في الغالب - بالسخط والنقمة، حتى ان الأمر يبلغ به احياناً حدوداً تقارب اليأس، وخصوصاً عندما يجري كلامه على مصيره الفردي، او بالأحرى على معاناته الشخصية، هذه المعاناة التي عاشها طيلة حياته. يقول في قصيدة بعنوان "آخر الموت" من المجموعة السابعة "زمان بلا نوعية": "ليس بيني وبين شيء قرابهْ / عالمي غربة، زماني غرابهْ / ربما جئتُ قبل او بعد وقتي / أو أتت عنه فترة بالنيابهْ" الجزء الثاني في الديوان ص875. إن نقمة البردوني تتحول احياناً الى موقف وجودي، يقوم على التبرم ازاء كل شيء من حوله. وفي هذا يبلغ إحساسه حدود السوداوية، متجاوزاً "النقد" الذي نجده في كلامه السياسي، الذي هو كثير في قصائده. فالبردوني لم يشأْ ان يسكت إزاء ما عاشه من مشكلات سياسية على مستوى الوطن كله، وأراد ان يدين المسؤولين عن مآسي الشعب وأن يُشهّر بهم. لم يسكت البردوني إزاء ما رأى بلاده تتخبط فيه من فقر وظلم وفساد وحروب وانقسامات وصراعات. ولا نبالغ اذا قلنا ان معظم شعره يدور على ذلك. إلا ان ذروة مواقفه الساخطة، المنتقدة الناقمة، تتمثل في ضيقه بكل شيء، وفي إحساسه بأنه وحيد غريب في هذا العالم، كما جاء في البيتين اللذين اوردناهما قبل قليل. ويمكن للقارئ ان يلاحظ ان الإحساس بالوحدة والغربة والضياع رافق الشاعر منذ بداياته. ففي قصيدة بعنوان "وحدي هنا" موجودة في المجموعة الأولى "من ارض بلقيس"، يقول: "وحدي هنا يا ليلُ وحدي / بين آلامي وسهدي / وحدي وأموات المنى / والذكرياتُ السودُ عندي" الجزء الأول من الديوان ص 163. نجد هنا ما هو ابعد من الموقف الرومانسي، وإن كانت اجواء رومانسية قد طبعت قصائد البردوني في بداياته. نجد في المستوى الشخصي ما يتجاوز الرومانسية الى السوداوية. وفي تصديه للشؤون العامة، يبدو لنا البردوني احياناً على مشارف اليأس، وقد يأتي في خلال ذلك بعبارات لها وقع المفاجأة. من ذلك مثلاً ما نجده في هذا البيت من قصيدة بعنوان "إلا انا وبلادي" موجودة في المجموعة الرابعة "لعيني ام بلقيس": "والصداقاتُ كالعداواتِ تؤذي / فسواء من تصطفي او تعادي" الجزء الأول من الديوان ص584. ومن الطريف ان القصيدة المشار إليها "إلا انا وبلادي" تنتهي ببيتٍ يمثل ذروة في السخط والنقمة والتبرم، هو الآتي: "هذه كلها بلادي وفيها / كل شيء إلا انا وبلادي". 5- يُظهر البردوني في قصائده صلته الوثيقة بالتراث العربي، وبخاصة في جانبه الأدبي الشعري. وليس غريباً ان يتمثل ببعض التجارب التي تتمتع بمكانة خاصة في هذا التراث. ولا نستغرب ايضاً ان يجد البردوني في ابي العلاء المعري وفي شعره النموذج التراثي الأقرب إليه وإلى تجربته في الشعر وفي غيره من شؤون الحياة. ومن الممكن ان نستخرج من الديوان ابياتاً كثيرة تؤكد تلك الصلة التي يريدها البردوني بينه وبين المعري. ونكتفي هنا بإيراد هذا البيت من قصيدة بعنوان "رسالة الى صديق في قبره" موجودة في المجموعة الثامنة "ترجمة رملية لأعراس الغبار": "انتَ في قبرٍ وحيدٍ هادئٍ / انا في قبْرين جلدي وبلادي" الجزء الثاني من الديوان ص1114. في هذا البيت، يذكّرنا البردوني بالمعري، الذي يتحدث في "لزومياته" عن ثلاثة سجون، كان يشعر بأنه يعيش فيها: العمى، والوطن، والجسد. اكتفى البردوني بالكلام على اثنين من هذه السجون الثلاثة، وكأنما قصد الى إهمال العمى الذي هو مشترك بينه وبين المعري، إلا انه صعّد تصويره للعلاقة بالجسد والوطن، فجعلهما قبريْن، ولم يكتف بجعلهما سجنين كما فعل المعري. لم يكن ابو العلاء الشاعر الوحيد الذي عبّر البردوني في قصائده عن صلة او تمثّل به، بل هنالك الكثيرون من شعرائنا القدامى، اتى البردوني على ذكرهم او الاستلهام منهم، وفي طليعتهم المتنبي، الذي له حضور واضح في الديوان. نحيل هنا - على سبيل المثال - الى قصيدة بعنوان "وردة من دم المتنبي" موجودة في المجموعة الثامنة "ترجمة رملية لأعراس الغبار" الجزء الثاني من الديوان ص 965 - 973. 6- في ديوان البردوني "غنائية" تظهر لنا عالية في البدايات، ثم تأخذ بالخفوت مع الزمن، او مجموعة بعد مجموعة. الغنائية التي هي نشيد الذات تتراجع عند البردوني، وهو يمضي في تجربته، امام تصاعد صوته في الاحتجاج على الأوضاع العامة وعلوّ نبرته في التصدي للوقائع والأحداث التي راح يشهدها. هكذا يشعر القارئ - وهو يمضي في تصفّح الديوان - بأن ذلك الوتر الشجيّ، الدافئ الرقيق، الذي تسري همساته في قصائد البردوني المبكّرة، وبخاصة في مجموعتيه الأولى والثانية، قد عملت المجموعات اللاحقة على الذهاب به، جزئياً او كلياً. يشعر القارئ بانكماش ذلك الوتر الشجيّ، يفتقده، يحنّ إليه. نكتفي لاستحضاره هنا، بهذه الأبيات الثلاثة من قصيدة بعنوان "رحلة النجوم" موجودة في المجموعة الثانية "في طريق الفجر": "من أنا؟ شاعرٌ، حريقٌ يغنّي / وغنائي دمي، دخانُ دخاني / فحياتي سرُّ الحياة وشدْوي / لحنُ ألحانها، معاني المعاني / وضيَاعي سياحةُ العطْر في الريح / وتيهي مزارعٌ من أغانِ" الجزء الأول من الديوان ص251. تلك كانت ملاحظاتنا على ديوان الشاعر اليمني عبدالله البردوني. وقد حاولنا من خلالها ان نقدم الخطوط العريضة او الملامح العامة لتجربة هذا الشاعر. وفي ظننا ان هذه الملاحظات إزاء الديوان تشكل مدخلاً لدراساتٍ اكثر تفصيلاً. * قُدِّمت هذه الورقة في الندوة التكريمية التي عُقدت حول الشاعر عبدالله البردوني في جامعة ذمار باليمن، في 22 آذار/ مارس 2004.