"داخلني شعور بالاشمئزاز ورحت أقول لنفسي يجب أن أغادر الغرفة على الفور. بيد أنني عوضاً عن ذلك التقطت الكلاشنيكوف الملقى على الكنبة وأطلقت النار فوق رأسه". يتفوه بهذا القول بطل قصة "عشية الصمت" في المجموعة القصصية التي تحمل العنوان نفسه للقاص الفلسطيني سمير اليوسف المؤسسة العربية، 2004. وبطل القصة هو الراوي الذي يسرد وقائع مما جرى له، مع صديقيه أحمد وخالد، إبان زيارتهم لبلدة في الجنوب اللبناني. ثلاثة شبان في سيارة في بلدة من ضواحي مدينة جنوبية هي، على الأغلب، صيدا. ليس في هذا ما يدعو إلى التعجب لولا أن الأمر يتعلق بفدائيين فلسطينيين وأن الوقت هو زمن الحرب التي دارت رحاها في لبنان على مدى سنوات طويلة متلاحقة. يلجأ القاص إلى لغة واضحة وسرد شفاف من أجل تحرير التيمة القصصية من أسر الأحكام المسبقة والتصورات المنمذجة التي ما برحت تحيط بها. هو ينزع عن الفدائي رداءه السياسي الذي كان صار بمثابة "تابو" يصعب اختراقه ويضعه على مستوى أنظارنا كائناً أرضياً يحمل من الهواجس والنزوات ما يجعله، شأن أي أنسي آخر، مهيأً للنزق والطيش والقسوة والأغلاط. لا يعود الأمر يتعلق بمجموعة من البشر ممن تأطروا بالمثال والرمز والأسطورة، بل بناس عاديين لهم حيواتهم الخاصة وكياناتهم الفردية. ولا تؤخذ الحرب هنا حدثاً خارجياً يصيب الناس في عيشهم وأملاكهم وأرزاقهم بل حالة للعيش تتغلغل في ثنايا النفس وتتسرب إلى المشاعر والأحاسيس وتستقر في قاع الروح. يأتي القاص إلى موضوعه بتجرد، ويكاد موضوعه أن يكون واحداً في قصص المجموعة كلها، أي حضور الفدائيين الفلسطينيين وعلاقتهم مع السكان من أهل القرى والبلدات اللبنانية، فضلاً عن المخيمات الفلسطينية الموجودة على الأرض اللبنانية. لا يقارب القاص الموضوع بمنظار سياسي أو برؤية إيديولوجية. كما أنه ينأى بنفسه عن الأحكام الأخلاقية. هو لا يدين أو يشجب ولا يقرظ أو يمدح. تأتي القصة إلى القارئ عارية من كل محمول إيحائي. ما يساعد القاص على النجاح في مسعاه يكمن في تمسكه بقناعة أن ما يكتبه يتعلق بفن الكتابة القصصية وهذه لا شأن لها بالخطابة والاستنتاج والتقويم. فالقصة تنهض من داخل نفسها متكئة على منطقها وقوانينها من غير اكتراث بظنون الخارج وأهوائه. يبدو بطل قصة "عشية الصمت" متحللاً من الإحساس بالمسؤولية. ليس هناك ما يربطه بواجب علوي أو يدفعه إلى ملاحقة غاية معلنة. الأمر سيّان سواء قعد في بيته أم مضى إلى ميدان المعركة. لقد تهدمت في أعماقه الفواصل بين الجد واللعب، بين الالتزام وعدم الاكتراث. هو كائن وجودي صغير لا ادعاءات له. مثل ميرسو، بطل رواية "الغريب"، يدفع الأيام دفعاً ويفعل ما يفعله لمجرد قضاء الوقت. كأنه يتسلى. بل هو يتسلى بالأشياء كلها، بما في ذلك الحرب. ومن أثر ذلك، فإن قدراً كبيراً من البراءة والبساطة يرقد في داخله بالعكس من زميليه اللذين زرعت الحرب فيهما الإدمان على العنف والقسوة وحولت كيانيهما إلى موطن للهمجية. ليس من رادع يحول بينهما وبين الفتك بامرأة وحيدة تخلفت عن الهروب ولبثت في بيتها. هي امرأة أصابتها الحرب بالخبل في أغلب الظن وصارت تقضي حياتها مع القطط. وأن يقارع بطل القصة دفاعاً عن المرأة يبدو، في نظر الصديقين، شيئاً أقرب إلى الجنون وفقدان العقل. لا عجب أنه في النهاية ينفصل عن صديقيه وقد عقد العزم على البقاء في البيت المهجور في البلدة المهجورة للاعتناء بالقطط إلى أن تنتهي الحرب. في القصة يختلط الواقع بالفانتازيا وتشتبك الأفعال والكوابيس في بنيان قصصي متماسك ورصين. والحال أن الفانتازيا تخيم على مساحات واسعة من فضاءات القصص حتى تلك التي تبدو صارخة في بساطتها ووضوحها. ويتعذر على القارئ التيقن مما إذا كان إزاء حدث واقعي يجري مجرى العيش اليومي أم أن الأمر يتعلق بدفق من الهذيان والهلوسة. في قصة "بقية الليل" ثمة توازن بين طرفي المعادلة بمكيال دقيق. ولا يعود ممكناً الاطمئنان إلى حقيقة إبراهيم، بطل القصة، وخوفه المزمن من الملاحقة. هناك إحساس دائم بأن هناك من يتعقبه. لماذا لا يتركونني وشأني؟ سؤال مرعب يلح عليه ولكنه سؤال نشعر بأننا نطرحه على أنفسنا أسوة ببطل القصة. نحس أنه سبق لنا أن التقينا بإبراهيم في مكان ما، وثمة إحساس أيضاً بأن في أعماق كل واحد منا إبراهيم مذعوراً يركض هارباً من مجهولين يطاردونه. غير أن هذه الشراكة في الأحاسيس لا تنهض علنية وهي لا تفصح عن نفسها بقوة التشبيه والكناية، بل ترقد هناك في صمت ضائعة بين السطور ومستسلمة إلى لغة رقيقة لا أثر فيها لنبرة عالية. تبدو قصص المجموعة وكأنها فصول في رواية واحدة. بل ان الأسماء تتكرر حتى يلوح وكأن الأمر يتعلق بالشخصيات نفسها. هي شخصيات تستعرض وجودها في أوضاع مختلفة من حياة تتبدل في كل لحظة في ظل حرب ثقيلة لا تلوح لها نهاية. الحرب راسخة إلى حد أنها تصبح التصور الوحيد الممكن للعيش. وفي خضم هذا التصور تكتسب كل شخصية سماتها وتحفر لنفسها درباً متفرداً للذهاب إلى المستقبل. يلاحق القاص الشخصيات والوقائع بأدوات من السرد والوصف والتأطير تقترب من عدسة مصورة تلتقط التفاصيل والألوان بدقة. في "نوبة حراسة" نشعر وكأننا إزاء مشهد سينمائي لا يغيب عن بال المصور ملاحقة أدق الحركات وأكثرها هامشية. "صببت قليلاً من الشاي في قعر الكوب المغبش. وكانت ترسبت بقايا سكر غير مذاب. ولمحته يحدق إليّ بضيق. حركت الكوب قليلاً ودلقت ما فيه أسفل السرير. كانت أرض الغرفة الترابية موحلة، وكنا رفعنا قوائم السريرين فوق أحجار باطون". لا يكتب القاص عن الحرب. هو لا يصف المعارك ولا يلاحق مجريات الأحداث على الجبهات. لا يرسم بورتريهات للقتلى والجرحى ولا يصف الأهوال والفظاعات. الحرب التي يقاربها القاص هي تلك التي تترك أثرها في السلوك اليومي لناس غدت الحرب أسلوبهم الوحيد في العيش. هؤلاء يواصلون أعمالهم ويلاحقون أحلامهم وأهواءهم وغرائزهم شأن كل البشر. بل إن الحرب تتحول إلى نوع من فسحة مجانية لتفريغ شحنات الاحتقان وممارسة سادية عبثية لا سبب محدداً لها. "صوّب موعد فوهة الكلاشنيكوف إلى رأس الرجل الذي تلطخ وجهه بالدم وأمره أن يلحس الإسفلت". حتى الأولاد يصيرون محاربين من دون أن يدروا. هم يمارسون الحرب في اللعب. الناس هم الناس أنّى كانوا. لهم مشاغلهم الصغيرة وحاجاتهم البسيطة وأطماعهم السرية. القضايا الكبيرة لا تشطب كل ذلك. قد تفلح في إخفائها لحظة من الزمن ولكنها لا تبددها. الحرب يخوضها أبطال القصص الذين يذهبون إلى الخنادق البعيدة ويجلسون وهم يحكون عن الاشتباكات التافهة، فيما أكياس الرمل تتناقص باستمرار. "كان الناس يسرقونها". في ما وراء الحرب و"الثورة"، وإلى جانبها، هناك الكذابون والنصابون والطماعون والمرحون والصادقون والقوادون والمحتالون. هناك الرؤساء والمرؤوسون والتجار والموظفون وسواهم. إنهم الناس كلهم في الحرب وفي السلم.