مع بدايات التسعينات من القرن الفائت، وبعد مرحلة أقل ما توصف به سردياً انها كانت مرحلة القصة القصيرة بامتياز، شاعت مقولات لعدد من كتاب القصة السعوديين، ان العقد المقبل هو عقد الرواية بلا منازع. ودعم تلك المقولات انتهاء القصة إلى شبه بناء فني ناضج، وارتفاع نسبة الوعي لدى الناس وتطور المجتمع ووصوله إلى مرحلة من الاستقرار، بعد سنوات الطفرة المتلاحقة، الأمر الذي يمكن إزاءه تقبل تناول الواقع في كل تفاصيله من دون حرج ومن خشية من المؤسسة الاجتماعية. وكان ذلك هو ما حصل، إذ صدر خلال السنوات العشر المنصرمة عدد لا بأس به من الروايات. لكن المفارقة هنا تكمن في ان هذه الروايات لم تصدر عن تلك الأسماء التي كان ينتظر منها أن تضطلع بتلك المهمة، والتي صرح بعضها بأن لديه أكثر من مشروع روائي، إنما جاءت من أسماء أخرى تالية لهم. لعلّ أغلب تلك الأسماء، ومن أبرزها: عبدالله السالمي ومحمد علوان وحسين علي حسين وعبدالله باخشوين ومحمد صادق دياب وفهد الخليوي وعبدالعزيز مشري وجارالله الحميد وجبير المليحان ومبارك الخالدي ومحمد الشقحاء وسعد الدوسري وصالح الأشقر وعبدالله حسين وتركي العسيري وسواهم من جيلي السبعينات والثمانينات. وهؤلاء الذين تبلورت على أيديهم ملامح القصة في شكل قوي توقفوا عن الكتابة، وبعضهم واصل من دون أن يقدم في جديده، بحسب المتابعين، إضافة نوعية تصل إلى المستوى الذي عرفه به القارئ. ما حصل، أربك المشهد السردي في السعودية، ودفع بعض النقاد إلى التحفظ وعدم التفاعل نقدياً مع الإصدارات الروائية التي كأنما جاءت خطأ. فما أحدثه أولئك بالقصة ليس أمراً سهلاً يمكن تخطيه بسهولة، لذلك فهم يحضرون بقوة كأسماء وكمنجز، حتى في ظل غيابهم. وفي نظرة عامة إلى ما قدموه، يمكن ملاحظة أن القصة شهدت على أيديهم تحولات جذرية. فالقصة كانت قبلهم خالية من التقنيات الفنية وكان ينظر إليها كجزء من خطاب إصلاحي تبلورت أولى مقولاته وأفكاره في ما بين الحربين، كما يقول الناقد معجب الزهراني. وتجاوزت كتابة هؤلاء ما تم إنجازه قبلاً، ولم يختلف ما أنتجوه على مستوى الرؤية والنضج والخبرة السردية عما قدمته أسماء عربية مجايلة لهم في مصر وسورية ولبنان والعراق. كان سعي هؤلاء الى ان تعكس قصصهم حالات الاغتراب التي يعيشها الإنسان السعودي في مجتمع مديني إستهلاكي تشكل بسرعة فائقة، سبباً في الانتقال الخاطف من مرحلة التأصيل إلى مرحلة التجريب. وجاءت قصة هؤلاء مقترنة بجملة ظواهر فنية لافتة، من استخدام تيار الوعي واختفاء البناء التقليدي تماماً، وسيطرة الواقع النفسي للبطل واختفاء أدوات الربط واستخدام مكثف للفعل المضارع، وهيمنة اللغة الشعرية وإفساح المجال للبطولة الفردية، واستخدام الرمز. وصاحب قصة هؤلاء نوع من الغموض، يعكس تشوش الرؤية حيال واقع يتطور باستمرار وأيضاً لينأى القاص بنصه عن الوضوح والمباشرة. لم يكن معظم هؤلاء يواصلون تجريبهم وكتابتهم في عزلة عن العالم، بل كانت منفتحة معرفياً على الثقافات الأخرى في الوطن العربي والعالم. وكموقف رافض من المتغيرات التي رافقت الطفرة النفطية، تجلت في إنتاج بعض هذه الأسماء نبرة رومانسية، تعبر عن حنين ومعاناة، من خلال الذهاب إلى القرية أو الصحراء والنخيل والأسطورة، مع احتفاء بالتفاصيل والغوص عميقاً في دهاليز الذات. أوجد النفط عند هؤلاء إحساساً عميقاً بالفقد واليتم، ولذلك تبدو قصص بعض هؤلاء أشبه ببكائيات على القرية وعوالمها البريئة. وهناك من أبقى نصه في المدينة، راصداً آثارها على الطبيعة والملامح الإنسانية، فحضر كافكا ومارسيل بروست وجيمس جويس وناتالي ساروت وفرجينيا وولف وسواهم عبر تقنيات سردية جديدة وإشكالية. وحدث أن استوعب أولئك القاصون سريعاً ما يحدث من انهيار في منظومة القيم السائدة آنذاك وصعود أخرى، ومن تبدلات في المكان وفي النفوس. ولفت هذا المسعى القصصي عدداً من النقاد العرب، فحظي حينذاك بمتابعة نقدية جيدة، قدمها كتاب مثل: يحيي حقي وعلي الراعي وفاطمة موسى وشاكر النابلسي وغالب هلسا وعلي الراعي وفاروق البقيلي ومحمد صالح الشنطي ونقاد من السعودية والخليج. نعود إلى النقطة التي بدأنا منها، ونتساءل لماذا لم تكتب هذه الأسماء الرواية، مع انها كانت مؤهلة فنياً أكثر من غيرها، بحكم التجربة والخبرة والوعي بالمتغيرات. طبعاً تعددت الأقاويل حول ذلك، فهناك من يقول ان الاستقرار المادي، مثل سبباً جوهرياً ليس فقط لعدم كتابة هؤلاء الرواية، بل ولانقطاعهم تماماً عن الكتابة. أصبح الكاتب لا يجد الوقت ليكتب، فهو مهموم بشؤونه الخاصة، يعيش حياة مترفه نوعاً ما، وثمة آخرون يرون أن إحجام النقاد لاحقاً، وخصوصاً النقاد السعوديين، عن مقاربة أعمال هؤلاء، واحد من الأسباب الرئيسة. القاص حسين علي حسين، صدر له "ترنيمة الرجال المطارد" و"طابور المياه الحديدة" وسواهما من المجموعات القصصية المتميزة، ولديه ثلاث مخطوطات روائية، يقول: "برزنا كجيل واحد، كانت لدينا أناة على القراءة، قرأنا سارتر وكولن ولسن وتشيكوف وتولستوي ودوستويفسكي وديكنز وسواهم من الكتاب العالميين، وعلى رغم أن نكسة حزيران 1967، حدثت قبل أن يبدأ بعضنا الكتابة بعامين تقريباً، إلا انها مارست علينا تحريضاً، من قبيل إعادة النظر في الشكل القصصي السائد آنذاك والتحول إلى أشكال أكثر حداثة. وحدث أن تخمرت كل قضايا النكسة في وعينا لنعبر عنها لاحقاً في كتابات قصصية حديثة". وعن سبب عدم إصداره الرواية، ذكر انه ومنذ حرب الخليج الثانية، "لا أجدني متحمساً لإصدار الكتب، كما أنني أشعر بلا جدوى النشر والكتابة على رغم أنني لم أتوقف". ويبرر ذلك بانعكاس "قضية المعيشة على الإنتاج الأدبي. كان الكاتب في ما مضى يصدر مجموعة أو ثلاثاً كل سنتين، الآن لا يوجد شيء من هذا. إذا نظرنا إلى الكاتب في سورية أو لبنان أو مصر نجد لديه نوعاً من التفرغ الجزئي، هناك احتراف للكتابة، هناك كتاب بدأوا معي في بلاد أخرى وأصدروا أكثر من خمسة عشر كتاباً. "ويوضح ان الكاتب في الخليج والسعودية تحديداً، "يفتق الى الجدية". القاص عبدالله باخشوين، الذي عرف بمجموعته القصصية "الحفلة" الصادرة في منتصف الثمانينات الميلادية، والتي تميزت بأجوائها الكابوسية، يشير الى ان الكتابة بالنسبة اليه حالة مزاجية: "أنا دائماً أسعى لإيجاد المبررات التي تجعلني أبتعد عن الورقة والقلم. لا أخفي أن ما لدي لا يرتقي الى مستوى ما حققته في "الحفلة" من إنجاز شخصي". ويقول: "نحن نستعجل أحياناً في الحكم على قدراتنا في كتابة الرواية، الرواية تحتاج إلى خبرات وقدرات خاصة، وعلى الكاتب أن يكون حذراً في التعامل مع أدواته، لأن الرواية غير الحكاية، والتعامل مع الرواية يستلزم إعادة النظر في أدوات الكاتب في بنية تفكيره نفسه. والتعامل مع الرواية هو الذي دعاني الى التوقف في منتصف كتابة الرواية، لأنني اكتشفت أن خبراتي السابقة لا تصلح للتعامل مع فن الرواية وبالتالي من الممكن أن أكتب قصة طويلة ولكن ليس رواية". ويذكر الناقد الفلسطيني محمد صالح الشنطي، المقيم في السعودية وهو من أكثر النقاد متابعة للإصدارات القصصية والروائية، ان بعض أولئك القاصين، عرض عليه مخطوطات روائية، "لكنهم لم يصدروها". ويوضح أن بعض هؤلاء "استرخى وترهل وبدأ ينصرف عن الكتابة الأدبية لأنه وجد الساح الثقافية، بعد أزمة الحداثة، غير مهيأة لاستقبال النتاج الذي يريدون أن ينشروه. وهناك من شعر ان ليس في إمكانه أن ينفذ طموحاته الروائية فصمت". ويقول عن الأعمال القصصية التي صدرت من أسماء تالية لهؤلاء: "ليست في مستوى ما كنا ننتظر، الجيل الجديد إما عاد إلى القصة في مفهومها التقليدي، أو كتب خواطر متناثرة وأطلق عليها اسم قصة، والبعض الآخر، يكتب أشياء، ولا ينشرها". ويؤكد أن "لا توجد أعمال تستفزني على الكتابة"، وأن لا وجود لجيل قصصي جديد "يمكن أن يفرض نفسه على النحو الذي فرضه في السابق، جيلا الثمانينات والسبعينات".