مدينة مربعة الشكل يخترقها شارع رئيسي قادم من بغداد ليعبر النهر عند جسرين احدهما قديم بني في الثلاثينات على اشلاء قنطرة شيدت في العهد العثماني وتحديداً عام 1870، والثاني حديث بني نهاية الستينات، يفضي كلاهما الى الحبانية، القاعدة الجوية العراقية العريقة، ثم الى مدينة الرمادي، مركز محافظة الانبار، التي تبعد 100 كلم غرب بغداد. ثم يستمر الطريق بمحاذاة نهر الفرات فيمر بمدن هيت وحديثة وعنة وحصيبة قبل ان يدخل الاراضي السورية، على بعد 350 كلم شمال غرب بغداد. ومن هذا الشارع الرئيسي تتفرع شوارع عدة باتجاه الشمال والجنوب، تتوزع منها شوارع أخرى باتجاه الغرب والشرق. وتشتهر الفلوجة بمآذنها، التي طالها القصف العشوائي فالحق أضراراً فادحة بعدد كبير منها. وفشلت القوات الاميركية في فرض الحصار الشامل والكامل على مدينة الفلوجة، فكل ما تمكنت من القيام به فرض سيطرتها على الطريق الرئيسي القادم من بغداد، ثم طريق المرور السريع الذي يقترب من ضواحيها الشرقية والشمالية ليواصل مساره باتجاه الرمادي ويعبر النهر بالقرب منها متجهاً الى الحدود العراقية - السورية والعراقية - الاردنية. بيوت مدمرة وجوامع طاولها القصف، وعدد كبير من القتلى ازدحم بهم الملعب الذي تحول على حين غرة الى مقبرة جماعية لاكثر من 300 شخص من جميع الاعمار سقطوا خلال اسبوع من المواجهات. وعلى قبر احدهم كتب بخط متعثر وبطلاء أزرق "هنا يرقد طفل لم ير النور" دفنت فيه امرأة حامل في شهرها الثامن. الرجل الاربعيني الذي كان يدلنا على طرق لا يصلها القناصة لم يتوقف عن شتم الاميركيين: "إنها مجزرة جماعية وهذا هوالدليل"، مشيراً بغضب الى قبور حفرت حديثاً. وعلى احد القبور المعزولة المحاط بسياج قليل الارتفاع كتبت كلمة "خائن". ويشير سكان الفلوجة بهذه الصفة الى الاشخاص الذين يشتبه في علاقتهم بالاميركيين. قال مرافقنا "كان يستحيل علينا دفن موتانا في المقبرة. كان القصف شديداً ومتواصلاً، فلم يكن امامنا غير الاتجاه نحو الملعب الواقع في وسط الفلوجة". ويكمل شخص آخر، "أبو محمد"، حديث مرافقنا، قائلاً لقد اضطر البعض الى دفن قتلاهم في حدائق المنازل وهناك عشرات من الجثث في الاحياء الشرقية القريبة من طريق المرور السريع لا تزال في العراء لعدم التمكن من الوصول اليها بسبب القناصة الاميركيين. السكان في الفلوجة، شكلوا ما يشبه الحكومة للاشراف على تسيير الامور وتوزيع المؤن والمياه وتأمين الخدمات الطبية، خصوصاً ادوية الجروح، والسيطرة على الوقود لإدامة حركة سيارات الاسعاف التي تشكو المدينة من قلة عددها. يقول الشيخ صفوان عبد الجبار الشمري إمام وخطيب جامع براء: "انهم يروجون الآن فكرة وجود الزرقاوي في مدينتنا وانهم يريدون القاء القبض عليه". ويتساءل هازئاً: "ولماذا ينتظر الزرقاوي وصولهم اليه دون ان يحرك ساكناً؟ لماذا لا يهرب مثلاً بعدما عرفوا بوجوده؟" ويقول احد السكان انه ليس في وسع قوات الاحتلال محاصرة الفلوجة بشكل كامل، فالنهر يمنع ذلك أولاً، وكثافة البساتين في جنوبالمدينة وكثرة النخيل تجعل المنطقة مكاناً نموذجياً لحرب العصابات ثانياً. وحاول الاميركيون فعلا فرض سيطرتهم على المنطقة المحصورة بين الفلوجة والصقلاوية وقاموا بانزال قوة من المارينز فيها لكنهم اضطروا الى اجلائها بعد اقل من ساعتين، عندما اتضح لهم استحالة البقاء بسبب المقاومة الشديدة والمنظمة. وكلفتهم العملية اكثر من عشرين قتيلاً ومروحيتين. يقول المقاوم "الاخ أبو أحمد"، كما يعرف نفسه، ان "الفلوجة واحدة من خياراتنا الاساسية لإلحاق الهزيمة بأعدائنا. ولا نقول ذلك من باب التفاخر او المزايدة. بل لاعتبارات كثيرة في مقدمها ان 90 في المئة من شباب الفلوجة مدرّب على السلاح واكثر من 40 في المئة منهم كانوا ضباطاً وضباط صف في الجيش العراقي وقوى الامن الداخلي. لذلك لدينا الآن جيش مدرب يتقن أساليب القتال والمناورة ويملك كفاءة عالية في جمع المعلومات الدقيقة عن العدو. وبذلك استطعنا امتصاص واحتواء هجماته على شراستها وقوتها". وسألنا أبو أحمد عن مستقبل المعركة في الفلوجة، فأجاب بتفاؤل: "ليس سهلاً التكهن في ما ستؤدي اليه. ولكن من الناحية العسكرية، ينبغي ان تتوفر لأي معركة شروط المرونة والمناورة وفوهات النار ومستوى التدريب وخطة الدفاع والهجوم. وسرعة التغيير من وضع الدفاع الى الهجوم وبالعكس، واستيعاب خصائص الارض وما عليها وما فيها. ومعرفة الخصم، وفهم نواياه. واذا حاولنا ان نطبق هذه القواعد الاساسية على ما هو قائم الآن في الفلوجة، نجد ان اكثر من 90 في المئة موجود وقائم فعلاً، لذا نحن على ثقة، بأن الفلوجة ستصمد وستلحق الهزيمة بالاميركيين"