مُنيت صناعة الطيران العالمية منذ عام 2001 بخسائر فادحة تقدر بنحو 30 بليون دولار بسبب سلسلة من الأزمات التي لحقت بهذا القطاع، ابتداء بأحداث 11 أيلول سبتمبر عام 2001 ثم الحرب على الإرهاب وظهور وباء الالتهاب الرئوي الحاد سارز في منطقة جنوب شرقي آسيا. وتلا ذلك الحرب على العراق وما صاحبه من ارتفاع في أسعار الوقود وتكاليف التأمين على الطائرات. وقلصت العديد من شركات الطيران العالمية نفقاتها وحجم أعمالها ضمن عملية إعادة هيكلة من أجل البقاء، في حين أعلن البعض الآخر إفلاسه وتوجه عدد من هذه الشركات إلى خيار الاندماج. وعلى رغم تراجع سوق الطيران العالمية، جاء أداء هذا القطاع في المنطقة العربية أفضل منه في بقية أنحاء العالم. وطبقاً لأرقام الاتحاد الدولي للنقل الجوي أياتا، ارتفعت معدلات نمو قطاع الطيران في الشرق الأوسط من واحد في المئة عام 2001 إلى سبعة في المئة عام 2002. ومع أن أعداد المسافرين في دول المنطقة تراجع بنحو 30 في المئة خلال فترة الحرب على العراق، في آذار ونيسان عام 2003، إلا أن القطاع سجل نسبة نمو في حدود تسعة في المئة للعام ككل مدعوماً بارتفاع حركة النقل بين دول المنطقة والتي جاءت في حدود 20 في المئة. وتمكن معظم شركات الطيران العربية من إعادة ترتيب رحلاته لمقابلة الطلب المرتفع على السفر بين دول المنطقة. ويتوقع أن تستمر معدلات النمو الإيجابية هذه مع ارتفاع حركة نقل الركاب بين دول المنطقة بنسبة 27 في المئة بحلول سنة 2007 حسب تقديرات"أياتا"، مع تسجيل أعلى نسبة نمو للرحلات من والى دول الخليج والتي قد تصل إلى 10 في المئة سنوياً. وتنعكس معدلات النمو هذه أيضاً على تقديرات الشركات الرئيسية المصنعة للطائرات، إذ تتوقع شركة"إيرباص"أن يصل الطلب من شركات الطيران العربية إلى 520 طائرة إضافية بحلول سنة 2020، بينما توقعت شركة"بوينغ"أن يرتفع إجمالي أسطول طائرات نقل الركاب في دول المنطقة بأكثر من الضعف خلال هذه الفترة، أي من 409 طائرات إلى 833 طائرة. ويلاحظ أن أكبر صفقة لشراء الطائرات أخيراً لم تأت من قبل شركات طيران عالمية رئيسية، بل من قبل شركة"طيران الإمارات"، والتي تقدمت بطلب شراء 45 طائرة"إيرباص"من طراز أ380 و أ340 و 26 طائرة"بوينغ"من طراز 777 -300 ذات الحجم الكبير، وهذه الطلبات تقدر قيمتها ب25 بليون دولار. كما أبرمت"الخطوط الجوية القطرية"أخيراً صفقة قيمتها نحو 5.1 بليون دولار لشراء 32 طائرة"إيرباص"وهي تخطط لمضاعفة حجم أسطولها خلال السنوات الخمس المقبلة. ولقد قامت شركة"طيران الشرق الأوسط"بشراء واستئجار طائرات جديدة بحيث أصبح لديها اليوم أحدث أسطول بين دول المنطقة، وتقوم شركات الطيران العربية الأخرى بما فيها"طيران الخليج"و"الخطوط الجوية التونسية"و"الخطوط الجوية الملكية المغربية"و"الخطوط الجوية الجزائرية"بشراء واستئجار طائرات جديدة، بينما تدرس"الملكية الأردنية"أفضل الخيارات لتحديث أسطولها. وهذا التوجه نحو التوسع وتحديث الطائرات دعمته عدة عوامل، أهمها النمو المتوقع لقطاع الطيران بين دول المنطقة، فقد أدت القيود والعوائق المفروضة على المسافرين العرب إلى الولاياتالمتحدة وأوروبا بعد أحداث 11 أيلول إلى تراجع عدد السياح العرب إلى تلك الاتجاهات، كما أثر وباء السارز سلباً في حركة السفر من والى الدول الآسيوية. وطرأ ارتفاع ملحوظ على أعداد المسافرين بين الدول العربية، إذ انتعش القطاع السياحي بشكل كبير خصوصاً في اتجاه مدن مثل بيروت والقاهرة وعمان ودبي، ويتوقع أن يستمر هذا التوجه مدعوماً بنمو اقتصادي قوي في دول المنطقة لسنتي 2004 و2005. كذلك يتوقع أن تؤدي عمليات إعادة إعمار العراق إلى زيادة الاعتماد على الدول العربية المحيطة كنقاط دخول رئيسية لنقل العدد الهائل من الركاب والبضائع والمعدات إلى العراق خلال السنوات القليلة المقبلة، وستتركز هذه الزيادة في أعداد المسافرين من رجال الأعمال إضافة إلى النقل وخدمات الشحن الجوي. وتشير الأهمية المتنامية لدبي كمركز للأعمال والسياحة في المنطقة بالإضافة إلى النمو الاقتصادي المرتفع الذي تشهده قطر، والانفتاح التدرجي للسوق السعودية لجذب السياحة الدينية على مدار العام، إلى توقعات بنمو قوي لقطاع الطيران في دول المنطقة. وحدث تطوران مهمان في قطاع الطيران في المنطقة العام الماضي، الأول إنشاء شركة طيران جديدة تهدف إلى تقديم خدمة متميزة تعتمد على توفير الراحة والرفاهية للمسافرين والثاني قيام شركات طيران اقتصادية، ومثل هذه التطورات لا بد وأن تؤدي إلى زيادة حدة المنافسة بين شركات الطيران العربية، كما أنها أثارت تساؤلات عدة حول ما إذا كانت المنطقة بحاجة إلى المزيد من شركات الطيران وتأثير كل ذلك في ربحية الشركات القائمة حالياً. فقد تم تأسيس"شركة طيران الاتحاد"التي تعود ملكيتها إلى حكومة دولة الإمارات والتي أصبحت تعمل كناقل رسمي للدولة لتتنافس بشكل مباشر مع كل من شركة"طيران الخليج"وشركة"طيران الإمارات". والشركة الثانية التي تأسست أخيراً هي"العربية"ومقرها الشارقة وهي أول نموذج لشركة طيران اقتصادية على مستوى الشرق الأوسط. وبدأت هذه الشركة بمباشرة العمل في تشرين الثاني نوفمبر من العام الماضي بهدف خدمة ملايين العمال الوافدين إلى دول الخليج من ذوي الأجور المنخفضة وخصوصاً من شبة القارة الهندية والذين يسافرون من والى المنطقة كل عام. ولتخفيض التكاليف، تقدم شركة الطيران"العربية"درجة واحدة من خدمات السفر وهي الدرجة السياحية وتتم غالبية الحجوزات وبيع التذاكر عبر شبكة الإنترنت، لتقليص الاعتماد على وكلاء السفر وعلى المسافر الذي يطلب وجبات الطعام والمرطبات على متن الطائرات أن يدفع ثمن هذه الخدمة الإضافية. وكجزء من خطة للتحول إلى الربحية بعد الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها عامي 2001 و2002، قامت شركة"طيران الخليج"في حزيران يونيو عام 2003 بتدشين شركة طيران اقتصادية تابعة لها توفر للمسافرين خدمة رخيصة الثمن للطيران على الدرجة السياحية فقط وتسير رحلاتها إلى 17 محطة خاصة في منطقة الخليج وشبه القارة الهندية من مقر شركة طيران الخليج في أبو ظبي. وفي أوروبا، سجلت شركات الطيران الاقتصادية مثل شركة"ايزي جت"البريطانية وشركة"ريان إير"الايرلندية أرباحاً جيدة خلال العامين الماضيين، كذلك في الولاياتالمتحدة، حافظت شركات الطيران الاقتصادية مثل"جيتبلو" وشركة"سونغ"التابعة لشركة"دلتا"وشركة"تيد"التابعة لشركة"يونايتد"وشركة"ساوث وست"على معدلات نمو جيدة. غير أنه ما زال غير واضح كيف سيكون عليه أداء شركات الطيران الاقتصادية في دول المنطقة العربية، إذ أن نجاح مثل هذه الشركات يتطلب وجود شريحة واسعة من أصحاب الدخل المتوسط التي تبحث دوماً عن أسعار منخفضة عندما تسافر في إجازات سنوية للخارج، كذلك وجود فئات جديدة من المسافرين الذين لم يعتمدوا على الطيران من قبل عندما كانوا ينتقلون من بلد إلى آخر ويمكن جذبهم إلى شركات الطيران الاقتصادية. والملاحظ أن أكثر من 50 في المئة من دخل شركات الطيران العربية خلال الأعوام الماضية تحقق من ركاب درجة رجال الأعمال والدرجة الأولى، وأفضل طريقة لخدمة هذه الشريحة من المسافرين هو القيام بتسيير رحلات بطائرات متوسطة الحجم من نقطة إلى أخرى من دون توقف أو تأخير وتوفير أنواع الراحة والرفاهية والتسلية لهؤلاء الركاب كافة. وباستثناء شركة"طيران الإمارات"التي حققت ارتفاعاً في صافي أرباحها بنسبة 51 في المئة خلال النصف الأول من العام الماضي لتصل إلى 167 مليون دولار، تبقى أرباح معظم شركات الطيران العربية الأخرى سالبة. فقد تمكنت شركة"طيران الشرق الأوسط"اللبنانية عام 2002 من تحقيق أول أرباح لها منذ 25 عاماً بعدما ألغت الحكومة الديون المستحقة عليها، كما أظهرت"الملكية الأردنية"أرباحاً تشغيلية عام 2002، تحولت إلى خسارة بعد أخذ الديون السابقة للشركة في عين الاعتبار. وحتى"الخطوط الجوية القطرية"، التي شهدت ارتفاعاً في عدد الركاب بنسبة 35 في المئة سنوياً في المعدل خلال الأعوام الخمسة الماضية، لا يتوقع لها أن تحقق أرباحاً قبل سنة 2006 على اقل تقدير. وتبقى التوقعات مشجعة بشكل عام لشركات الطيران العربية، فالنمو الاقتصادي المتوقع هذه السنة لدول المنطقة والتوسع المتزايد في حجم السياحة البينية للدول العربية سينعكس إيجاياً على أداء هذه الشركات، إلا أن إمكانية تحقيق معدلات ربحية مقبولة يعتمد على مدى نجاحها في تخفيض النفقات وتحسين قدرتها التنافسية. ولابد لشركات الطيران العربية التي تخطط للتوسع من شراء طائراتها كافة من شركة إنتاج واحدة سواء كانت"بوينغ"أو"إيرباص"وذلك لتخفيض كلفة التدريب والصيانة وتحقيق وفورات الحجم. ولا بد لشركات الطيران هذه من تشكيل تحالفات مع شركات طيران أخرى داخل وخارج المنطقة. ويتضمن تخفيض التكاليف إعادة هيكلة الديون لتقليص خدمة الدين، وإغلاق المحطات الخاسرة، والتخلص من العمالة الفائضة والتركيز على استخدام الإنترنت للحجز وإصدار التذاكر الإلكترونية. وحتى الآن، ما زالت معظم شركات الطيران العربية مملوكة من قبل حكومات دول المنطقة، ما يجعل العديد من القرارات تخضع لاعتبارات سياسية بدلاً منها تجارية أو مالية. وسيصعب تخصيص هذه الشركات أو جذب شركاء استراتيجيين للاستثمار فيها قبل أن تصبح مربحة، لذا لا بد من التركيز أولاً وآخراً على الربحية والقدرة التنافسية. * الرئيس التنفيذي جوردإنفست