تحتل شركة "بوينغ" مركز الصدارة في صناعة الطائرات، وهي تعتبر، من حيث حجم العمالة والانتاج، أكبر مجموعة في العالم في مجال بناء هياكل الطائرات المدنية. ويبلغ عدد عمال المجموعة الأميركية 238 ألفاً بينهم 120 ألفاً تقريباً يعملون في المجالات غير الدفاعية، ومنها بناء الطائرات تحديداً. إلا أن التقديرات تشير الى أن عُشر عدد العاملين في خطوط انتاج الطائرات المدنية مرشحون في المرحلة الحالية للتسريح بسبب عدم توافر قطع الغيار اللازمة لتأمين الطلبيات المرتفعة التي حظيت بها "بوينغ". وعلى رغم أن المجموعة العملاقة عززت موقعها في السوق الدولية خلال السنوات الماضية وأتمت عملية إعادة هيكلة مكلفة وجذرية بين 1994 و1998، إلا أنها تجد نفسها اليوم تتخبط في مصاعب تقنية ومالية أدت الى تكبدها، ولأول مرة منذ 50 عاماً، خسائر هزت ثقة الأسواق المالية بها. ويعود السبب، في المرتبة الأولى، الى أن "بوينغ" أصبحت ضحية نجاحها الكبير في وقت لا تتيح لها المعركة الشرسة التي تخوضها ضد خصمها الكبير، والمتمثل باتحاد الصناعات الجوية الأوروبية "ايرباص"، الفرصة لالتقاط أنفاسها، سيما وأن "ايرباص" نجحت في تثبيت موقعها وقاربت السنة الجارية على الاستحواذ على نصف السوق الدولية من صفقات الطائرات المدنية، وفي صورة خاصة، داخل أميركا الشمالية التي تعتبر أكبر سوق للسفر الجوي في الكرة الأرضية 44 في المئة من عدد الطائرات. وبنت "بوينغ" استراتيجيتها على أساس توقعات وقراءات لحركة نمو صناعة الطيران التجاري في أكثر من ثمانين سوقاً فرعية. وركزت، في صورة خاصة، على تعزيز حصتها من سوق الطائرات ذات الممر الواحد والطائرات المتوسطة الحجم. أما اتحاد "ايرباص" فيركز جهوده لبناء طائرة سوبر جمبو "ايه. اكس. اكس" تؤهله لامتلاك عائلة طائرات بأحجام متفاوتة على غرار ما هو الحال لدى "بوينغ". ومما شجع "بوينغ" على تبني هذه الاستراتيجية أن أغلب شركات الطيران حول العالم، وبعد السنوات العجاف التي عرفتها جراء حرب الخليج الثانية، حقق على مدى الأعوام الخمسة الماضية أرباحاً متواصلة أهلته لاعتماد خطط توسع لزيادة السعة المقعدية لأساطيله وتحديثها. وأدى هذا الوضع الى زيادة مضطردة في حجم طلبيات الطائرات الجديدة خلال السنوات الأربع الأخيرة، إلا أن عمليات التسليم لم تبدأ بالارتفاع إلا في الآونة الماضية. ومن المتوقع أن يفوق عدد الطائرات الجديدة المسلّمة 900 طائرة السنة الجارية. وتقول "بوينغ" ان النمو القوي لحركة النقل الجوي، الذي بلغ 9.7 في المئة في أوروبا العام الماضي، والأرباح الكبيرة التي حققتها شركات الطيران في الولاياتالمتحدة خلال 1997 بفضل انخفاض أسعار الوقود ورفع ضريبة العشرة في المئة على تذاكر المسافرين في الشهرين الأولين من العام الماضي وزيادة أسعار التذاكر في الربع الأخير ستساهم، على الأرجح، في المحافظة على معدلات الانتاج الحالية خلال 1999 وربما أيضاً، خلال عام 2000. أميركا الشمالية وأوروبا وترغب شركات الطيران الأميركية الشمالية والأوروبية، التي تقيم سلسلة تحالفات وتتبع استراتيجيات لإعادة الهيكلة بهدف زيادة تنافسيتها وخفض الأكلاف، في تحديث أساطيلها ومواكبة متطلبات النمو المتوقع في ظل التحرير المتزايد لسياسات النقل الجوي بين ضفتي الأطلسي وحول العالم. وتشكل أوروبا الغربية وأميركا الشمالية مجتمعة زهاء ثلثي حركة النقل الجوي في العالم 69 في المئة وهو ما يبرر ارتباط توقعات النمو في صناعة الطائرات بمعدلات النمو والانخفاض في هاتين السوقين. ويلاحظ العاملون في صناعة الطيران ان المعدلات الحالية لنمو السعة المقعدية وسعة النقل بدأت تتواكب مع معدل النمو في حركة النقل الجوي. ويشبه الوضع الحالي الى حد كبير الوضع الذي كان سائداً مطلع الثمانينات عندما سجل عامان من النمو السريع لحركة النقل الجوي وسادت سنوات متواصلة من الربحية العالية لدى شركات الطيران في وقت سارعت فيه شركات التأجير الى تسجيل طلبيات كبيرة على الطائرات استباقاً للطلب المتوقع في سوق الطيران التجاري. ومما ساهم في رفع معدلات الطلبيات الحالية ادراك أغلب شركات الطيران ضرورة الالتزام بمعايير الضوضاء الجديدة المنخفضة. وشكلت الطلبيات المسجلة عام 1996 نسبة ثمانية في المئة وعام 1997 نسبة تسعة في المئة من اجمالي الحجم الحالي للأسطول العالمي. ويبقى هذا المعدل أدنى بكثير من المعدلات السابقة التي وصلت عام 1989 إلى 21 في المئة وهو ما يعكس رغبة شركات الطيران في اتباع سياسات توسع محافظة. وتتوقع "بوينغ" ان يتراجع الطلب على الطائرات الجديدة بعد عام 2000 ليتناسب في شكل لصيق مع مستويات النمو في معدلات نقل الركاب والبضائع وهو ما تقدره المجموعة الأميركية للسنوات العشر اللاحقة بنحو خمسة في المئة سنوياً، على أن يكون التركيز منصباً، لا على شراء طائرات أعرض جسماً، ولكن على زيادة عدد الرحلات على 8400 خط رحلات جوية تعمل عليها شركات الطيران حول العالم. وتختلف نظرية "بوينغ" في هذا الصدد مع "ايرباص". ويقدم الطرفان احصاءات متفاوتة ومتضاربة الى حد كبير في ما يخص كيفية وظروف تطور حاجات شركات الطيران وأسلوب توسعها في السنوات العشرين المقبلة ومدى أهمية الطائرات العريضة الجسم. إلا أن ما لا تختلفان حوله يتعلق بالاحصاءات الخاصة بعدد الطائرات التي ستسلم السنة الجارية والتي تقدر بنحو 940 طائرة. ومن المتوقع أن يبقى معدل الانتاج في مستواه الحالي خلال العامين المقبلين وهو ما يعني زيادة وتوسيع خطوط الانتاج لدى المصنعين لأجسام الطائرات ومحركاتها، لمواكبة خطط شركات الطيران لاستبدال أساطيلها وزيادة حجمها. وتفسر هذه النقطة بالذات المشاكل التي تتخبط بها "بوينغ" على رغم أنها تمكنت خلال الشهور الفائتة في الخروج منها محققة بعض النجاح. وتعكس الزيادة الكبيرة في خطوط الانتاج جدية خطط الناقلات الجوية لاستبدال أغلب الطائرات النفاثة المتقادمة لديها. ومن المنتظر أن تشكل الطائرات الجديدة الاحادية الممر التي ستسلم قبل الأول من كانون الثاني يناير 2000 نسبة 60 في المئة من اجمالي الطلبيات المسلّمة. وفي ما يخص "بوينغ" فإن هذا الأمر زاد الطلب بدرجة هائلة - ومعه الضغط على خطوط الانتاج - لتصنيع طرازات مختلفة من طرازي "بوينغ 737" و"بوينغ 757". ويفسر سببان أساسيان الاقبال الكبير على الطائرات الاحادية الممر: الأول أن الطفرة التي شهدتها عملية تسليم طائرات للشركات الأميركية في الستينات أدت الى أن قدراً كبيراً من الطائرات النفاثة الاحادية الممر أكمل الآن العقد الثالث من عمره. وعلى رغم أنه لا يشترط على الناقلات الجوية تغيير طائراتها إلا أن القائمين عليها، كما تقول "بوينغ"، يملكون حوافز وقناعات اقتصادية كبيرة للاقدام على ذلك نظراً الى أن النفاثات القديمة هي طائرات تتراجع جدواها الاقتصادية يوماً بعد يوم. وتقول "ايرباص" ان التكنولوجيا تطورت في شكل ملحوظ خلال الأعوام الثلاثين الماضية. وتشير في هذا الصدد الى أن طائرة "ايرباص 320" تسع 150 مقعداً تحرق، على سبيل المثال، نصف كمية الوقود التي تستهلكها طائرة نفاثة تعمل بثلاث محركات من جيل الستينات. وتضيف انه بات من الممكن الآن تصميم طائرة تتلاءم مع تصميم المطارات الحالية وتكون قادرة على نقل عدد أكبر من الركاب وبمسافات أطول مع كلفة أقل. وتؤكد أن هذا العامل سيكون حاسماً خلال السنوات العشرين المقبلة حينما تتضاعف حركة وأنشطة النقل الجوي أربعة أضعاف. وتقدم "بوينغ" سبباً آخر لتدافع شركات الطيران على تغيير طائراتها الاحادية الممر وهو خفض معدلات الضوضاء. ويتعين على الناقلات الجوية في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية حينما يبدأ تطبيق المرحلة الثالثة من الميثاق الثالث الخاص بالضوضاء تحديب شكل طائراتها الحالية وأجنحتها مما سيؤدي الى خفض فاعلية استخدام الوقود فيها. وفي ظل ضرورة تطبيق هذه الاجراءات بين عامي 1999 و2002 فإن شركات الطيران المعنية تفضل، من وجهة نظر اقتصادية بحتة، إصدار طلبيات استبدال لطائراتها الحالية واحالتها الى التقاعد أو التخلص منها عبر بيعها في الأسواق الدولية الأخرى. وحملت الأزمة الآسيوية الأخيرة وما تبعها من تأثير على معدلات النمو الدولية شركات الطيران على مراجعة توقعاتها المستقبلية. إلا أن هذا الوضع لن يغير من شيء في حقيقة المنافسة القائمة بين "بوينغ" و"ايرباص" للاستحواذ على أكبر سوقين في العالم للطائرات الجديدة وهما أميركا الشمالية وأوروبا الغربية. المشاكل القائمة وتجد "بوينغ" نفسها اليوم في مواجهة مصاعب لم تكن تتوقعها حينما حاولت تكييف نفسها للاستجابة لتطلعات السوق مع حرصها، في الوقت ذاته، على إقصاء خصمها اللدود: "ايرباص" عن ساحة المنافسة. ولعل أبرز مشاكلها أنها رأت ربحيتها تتراجع على رغم ارتفاع انتاجيتها. واضطر مسؤولو الشركة الى عقد مؤتمرات دولية عدة مطلع الشهر الجاري لشرح حقيقة موقفهم وما استجد بصدد مشاكل انتاج الطائرات بعدما وضعت "بوينغ"، في تشرين الأول اكتوبر الماضي، خطة لانعاش عمليات التصنيع مجدداً. وكانت "بوينغ" حددت هدفاً لنفسها بين 1994 والسنة الجارية يتمثل بخفض أكلاف انتاجها بنسبة 25 في المئة، إلا أنها فشلت في تحقيق هذا الهدف. وفاقم صعوباتها اضطرارها الى توسعة خطوط انتاج الطائرات لديها في وقت لم يكن هناك توسع كافٍ في عملية تصنيع جميع أجزاء الطائرات لديها أو لدى مورديها الفرعيين. ونتيجة هذا الأمر، جرى اقفال مؤقت لخطي انتاج وتعطيل جهود الانتاج في منشآت عدة. وبلغت خسائر الشركة نتيجة نقص أجزاء الطائرات ووقف عملية الانتاج ثلاثة بلايين دولار يضاف إليها بليون دولار لتعويض خسائر أخرى مترتبة على بيع أول 400 طائرة من طراز "737" الجديد. وكانت "بوينغ" اضطرت الى إعادة بناء بعض هذه الطائرات لأنها كانت تحوي قدراً من منافذ الطوارئ أقل مما تقتضيه معايير السلامة الأوروبية. وعمدت الشركة بعد تطوير الطراز الجديد الى طرحه كنموذج معتمد من دون أن يدور في خلدها أن سلطات الاتحاد الأوروبي ستعامله على أنه طائرة جديدة بحاجة الى تراخيص جديدة متكاملة. وحمل هذا الأمر بعض المسؤولين في "بوينغ" على الحديث عن شكوكه بوجود مؤامرة "أوروبية" في هذا الخصوص تقف وراءها "ايرباص". مرارة المنافسة وخسرت "بوينغ" العام الماضي 178 مليون دولار بسبب منافستها ل "ايرباص" ولعائلة طائرات "320" التي تعتبر الطائرة الموازية ل "بوينغ 737". وكان خطأ المجموعة الأميركية أنها ركزت على خفض أسعارها بدل التركيز على الترويج للميزات التقنية والتشغيلية للطرازات الجديدة من طائرتها "737" التي تعتبر أنجح طائرة وأكثرها شعبية في تاريخ صناعة الطيران. وكانت النتيجة أن أرباح "ايرباص" تراجعت فقط بمقدار 61 في المئة العام الماضي الى 154 مليون دولار في وقت كانت "بوينغ" تمنى بأول خسائرها منذ نصف قرن. وعلى رغم أنها تتخبط في المشاكل التي أعلنت الاسبوع الماضي أنها بدأت تتجاوزها، لا سيما في ما يتعلق بتأمين قطع الغيار والأجزاء اللازمة لتشغيل خطوط الانتاج، إلا أن "بوينغ" ماضية قدماً في خطتها لزيادة عدد طائرات "737" التي تنتجها شهرياً من 24 طائرة إلى 27 طائرة العام المقبل. وكانت "بوينغ" تلقت مطلع الشهر الفائت طلبية بمقدار بليوني دولار من "الخطوط الكورية" لشراء 27 طائرة "737". ويحظى هذا الطراز الضيق الجسم بشعبية على خطوط الرحلات القصيرة المدى في منطقة المحيط الهادئ وآسيا حيث بدأت سياسات تحرير الأجواء تلقي بظلالها على استراتجيات التوسع وبناء شبكات النقل لدى شركات الطيران. وتحرص "بوينغ" من جهة أخرى على تأكيد محدودية التأثير الذي تركته الأزمة الآسيوية على حجم الطلبيات لديها. وقالت في تقرير سنوي نشرته الشهر الفائت ان عدد الطلبيات الملغاة لن يتجاوز 150 طائرة "جمبو" وان الأزمة الآسيوية ستترك آثاراً يحتمل أن تستمر لمدة ثلاثة أعوام على الأكثر. لكن المشكلة الكبيرة الأخرى التي تواجهها الشركة، التي قررت تخصيص ثلاثة بلايين دولار لتمويل عملية إعادة هيكلتها بعد اندماجها مع "ماكدونيل دوغلاس" العام الفائت بدل استثمار مبالغ طائلة في تطوير طائرة "سوبر جمبو" كما تفعل "ايرباص"، تكمن ليس في الغاء طلبيات طائرات "747" وانما في انكماش سوق الطائرات الجديدة العريضة الجسم. وتقوم الناقلات الجوية الآسيوية حالياً ببيع طائراتها من هذا الطراز أو تأجيرها وهو ما يحول دون اتجاه شركات الطيران نحو خيار شراء طائرات جديدة أكثر كلفة على الصعيد المالي. وفي ظل هذه الظروف فإن "بوينغ" التي عملت على رفع سعة خط انتاج طائرات "747" من أربع الى خمس طائرات شهرياً خلال الربع الجاري ستضطر الربيع المقبل الى خفض انتاجها الى 3.5 طائرة شهرياً. وإزاء تحديات النمو في سوق تحكمها عوامل متنوعة وتظللها منافسة شرسة مع "ايرباص" تجد "بوينغ" نفسها في مواجهة خيارات صعبة أولها ضريبة النجاح التي لا تعرف كيف تدفعها.