يتضح شيئاً فشيئاً حجم الدور الذي لعبته الإدارة الأميركية في إسقاط الرئيس الهايتي جان برتران أريستيد، اعتماداً على رجال عصابات هايتيين، وجدت قوات المارينز نفسها مضطرة لأن تتقاسم معهم السيطرة على شوارع بور أو برانس. وإذا كان هذا "التعايش الميداني" صعباً بين قوة دولية حصلت على تفويضها من مجلس الأمن ومجموعة من المسلحين يتهم قادتهم بارتكاب فظاعات في عهود سابقة، فإن مستقبل المهمة التي جاءت تلك القوة من أجلها تبدو أصعب، ما لم تنته بتسليم السلطة إلى هؤلاء القادة ودمج مقاتليهم بقوات نظامية، بمعنى آخر: تسليم الحكم إلى الميليشيات. ولم تأت "الانتفاضة" على أريستيد قبل أربعة أسابيع فجأة، إذ رغبت بها واشنطن منذ خسارة مرشحها مارك بازان الرئيس السابق للبنك الدولي الانتخابات الرئاسية أمام أريستيد عام 2000، ما حدا بالخارجية الأميركية في حينه إلى اتهام الأخير بتزوير نتائج الاقتراع. وجاء القصاص لأريستيد عبر قطع المساعدات عن بلاده، فوجد نفسه مكبلاً إلى أن وافق بنك التنمية الأميركي بفضل جهود اللوبي الأفريقي في واشنطن على برنامج قروض لهايتي، لم يكن تدفقه أكثر سلاسة من تدفق بنادق ال"أم 16" والذخيرة المخترقة للدروع للمعارضين. وفي وقت سعت الدعاية الأميركية إلى ترويج أنها ليست ضد أريستيد، مستندة إلى دور المارينز في إعادته إلى السلطة عام 1994 بعد انقلاب ضده استمر ثلاث سنوات، قامت واشنطن بمحاولة أخيرة لإقناع الرئيس العنيد ب"تقليص ظله" في البلاد. وأرسلت لذلك مبعوثها أوتو ريش إلى بور أو برانس بعد اندلاع الانتفاضة، للترويج مع اتحاد المنظمات الأميركية والمجلس الكاريبي لاتفاق على اقتسام السلطة بين الحكومة والمتمردين. وريش هذا، هو الرجل نفسه الذي شغل في عهد الرئيس السابق رونالد ريغان 1983- 1986 منصب مدير دائرة الديبلوماسية العامة لأميركا اللاتينية والكاريبي، واتهم عام 1987 بالتورط في فضيحة تسليح المقاتلين في نيكاراغوا. ويعتبر اليوم أهم واضعي الاستراتيجية الأميركية للحرب الكولومبية، ورجل الكواليس الذي فشل عام 2002 في إسقاط الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز. وتصاعدت أمس، التكهنات بدور واشنطن في إبعاد أريستيد عن الحكم، خصوصاً في ضوء اتهامه القوات الأميركية باختطافه ونقله إلى أفريقيا الوسطى بالقوة، بعد إجباره على التنحي. كما تعالت صرخات الأعضاء الأفارقة - الأميركيين في الكونغرس، مرددة اتهامات المحللين الديموقراطيين للإدارة الأميركية بأنها بدأت تقويض نظام أريستيد منذ وصول الرئيس جورج بوش إلى السلطة. ولإضفاء شرعية دولية على هذا التحرك، وجدت واشنطن في باريس حليفاً لها في ذلك، فكانت فرنسا أول من دعا إلى استقالة أريستيد منذ استيلاء الثوّار على النصف الشمالي لهايتي في أواخر شباط فبراير الماضي. ولفرنسا اسبابها في الاستياء من الرئيس المخلوع الذي تأخذ عليه مطالبته إياها بإعادة 22 بليون دولار، وهو مبلغ أضيفت إليه الفائدة، بدل ما دفعته هايتي لباريس عام 1863 للاعتراف باستقلالها الذي حصل عام 1804. وهايتي هي أول دولة في منطقة الكاريبي تحصل على الاستقلال والثانية في ذلك النصف من العالم تحقق ذلك بعد الولاياتالمتحدة التي استقلت عام 1776 . وبما أن إسقاطه كان لا بد من أن يأتي من الداخل كما حصل معه للمرة الأولى في 1991، نفذت الخطة ضده عصابات مسلحة من فلول الجيش الهايتي المنحل السيّئ السمعة وفرق الموت المدعومة من جانب وكالة الاستخبارات المركزية سي آي أيه وهما عصابتان اشتهرتا بطغيانهما خلال عهد الديكتاتور العسكري جان كلود دوفالييه في الثمانينات. واستعانت واشنطن بأندريه أبيد و"مجموعة 184" التي يقودها، وهي الجبهة الأمامية لمنظمات المجتمع المدني الشبيهة بالتحالفات غير الحكومية المعارضة لشافيز في فنزويلا. لكنها تضم ذوي سوابق إجرامية. ويشغل أبيد الذي كانت تربط والده علاقة صداقة بدوفالييه، منصب رئيس مصانع"ألفا"، أقدم تجمع صناعي في البلاد. وهو هايتي ولد في نيويورك ويحمل الجنسية الأميركية. ويحول ذلك دون حصوله على جنسية هايتي التي يحظر قانونها الازدواجية في هذا الشأن. ومن بين قادة المجموعات المتمردة أيضاً، لوي جوديل شامبلان الذي كان منفياً في جمهورية الدومينيكان وعاد قبل فترة إلى هايتي. وهو ضابط سابق في الجيش حكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبّدة لتورطه في اغتيال الناشطين السياسيين أنطوان إيزمريم وجان بيار بابتيست عام 1993. اسس شامبلان بالتعاون مع حليفه إيمانويل توتو المنفي في نيويورك "الجبهة الهايتية للتقدّم والتطوير التي تدعمها السي آي أيه" التي قادت إرهاب الدولة ضدّ معارضي الديكتاتورية العسكرية بين عامي 1991 و1993. وحكم عليه بالسجن المؤبّد لدوره في مجزرة عام 1994. ومن الزعماء الآخرين للمجموعات المتمردة العضو والقائد السابق في الجيش الهايتي غي فيليب الذي تدرّب على أيدي القوّات الخاصّة الأميركية في الإكوادور في التسعينات ثمّ عاد إلى بلاده حيث سعى إلى انقلاب عسكري عام 2000. ويشتبه في تورطه بتهريب الكوكايين.