من الملاحظ انه كلما ضعفت الدولة المركزية في العراق خلال القرون الماضية، قويت شوكة القبيلة والعشيرة وأخذت بالتمرد والعصيان. أما في المدن فيأخذ رؤساء الطوائف والمحلات بالخروج على سلطة الدولة وعدم طاعتها. وهذا ما حدث خلال حكم الدولة العثمانية. والواقع ان العراق لم يشهد حتى تشكيل الحكم الوطني في بداية القرن الماضي دولة قوية ذات سيادة وطنية وحكم مركزي. وأن أغلب الدول التي احتلته كانت استبدادية فرضت سيطرتها بالقوة والقمع، منذ سقوط بغداد على يد هولاكو عام 1256 الذي شكل بداية الانحطاط الحضاري. فضعف السلطة المركزية في العراق خلال القرون الماضية والحروب والصراعات والموجات البدوية المتوالية التي نزحت إليه، الى جانب استبداد الحكام والولاة وضعفهم، ساعدت على نشوء إمارات ومشيخات وسلطات محلية وطوائف وجماعات مختلفة وفرت مجالاً خصباً لتقوية الروح العشائرية والنزعات الطائفية وإعادة انتاج القيم والأعراف البدوية والتقليدية، حتى يحافظ كل من الحاكم والمحكوم على موقعه ومصالحه والدفاع عن "ديرته" وحمايتها. وهو ما ساعد على عودة القيم والعصبيات القبلية والطائفية والمحلية على حساب القيم والأعراف الحضرية، حيث حلّ الولاء للقبيلة والطائفية مكان الولاء للأمة والوطن. وقد استمر التخلف والركود الاجتماعي والاقتصادي حتى نهاية القرن التاسع عشر بعد حدوث تحولات بنيوية في نطام الملكية الزراعية وتطور نظام شبه اقطاعي ساعد على تفكك بنية القبيلة وتحول الفلاحين الى عمال زراعيين أجراء يعملون في أراضيهم، اضافة الى تخلف أساليب وعلاقات الانتاج الزراعية واستبداد الشيوخ وظلمهم، مما أدى الى انخفاض انتاجية الأرض واستغلال الشيوخ المالكين للأرض استغلالاً مقيتاً، دفع الى نزوح مئات الألوف من الفلاحين الى المدن للبحث عن عمل وحياة أفضل. ولم تمض إلا بضعة عقود حتى أصبح المهاجرون من الأرياف العراقية يشكلون غالبية سكان المدن الكبيرة. وبسبب أصولهم الريفية و قيمهم العشائرية أخذت كل جماعة منهم تستقطب مشاعر الولاء للقبيلة والعشيرة وفقاً لدرجة تطورها الاجتماعي والثقافي ودورها ووظيفتها وحضورها في الحياة العامة. ويتصدر الولاء للقبيلة بقيمها وأعرافها العشائرية ذات الخصائس الأبوية - البطريركية ثم الولاء للطائفة باعتبارها تكويناً اجتماعياً - دينياً يقوم على نمط محدد من الممارسة الدينية أو المذهبية، التي تكتسب بمرور الوقت طابعاً اجتماعياً وسياسياً. واذا كان للطائفية وظيفة ودور اجتماعي، فهما وظيفة ودور سابقان لتكوين الدولة الحديثة، لأن الطائفية نزعة تعصبية تجعل الفرد يقدم ولاءه الكلي أو الجزئي للقيم والتصورات الطائفية. وكذلك الحال بالنسبة الى القبيلة. وقد حاول الحكم الوطني، منذ تشكيل الدولة العراقية، دمج القبائل والعشائر والطوائف في المجتمع المدني ونجح في ذلك نسبياً. غير ان صعود حزب البعث الى السلطة حوّل العراق الى دولة ريعية - شمولية بسبب اعتمادها الكلي على واردات النفط الهائلة واتساع حجمها وأجهزتها العسكرية والأمنية والبيروقراطية وانقضاضها على مؤسسات المجتمع المدني الوليدة من أجل تثبيت السلطة في قبضتها الحديدية. ولأول مرة شهدت الدولة اندماج القبيلة بالمؤسسة العسكرية عن طريق التلاحم القرابي والمناطقي والتحالف العشائري لعشائر تكريت والدليم التي كوّنت قاعدة إسناد مقررة لأجهزة الدولة والحزب، مما شجع على تداخل القيم والأعراف العشائرية بقيم وأعراف المؤسسة العسكرية والحياتية الحضرية وتوليد أشكال من التماسك التقليدي الذي ساعد على تمركز السلطة في يد القبيلة وتحطيم الدولة البرلمانية التقليدية عن طريق ضرب المنظمات الجماهيرية وإضعاف الطبقات الاجتماعية وبخاصة الطبقة الوسطى وتفكيكها، على طريق الدولة الشمولية وتحولها الى جهاز للضبط والسيطرة والقمع. وقد استردت العلاقات العشائرية في العقود الاخيرة بعض قوتها وأعرافها من طريق تشجيع النظام الديكتاتوري على اعادة انتاج قيمها وتقاليدها وترسيخها وإعادة استخدام "القوانين" العشائرية، كالدية والفصل والبدل والثأر والحسم وغيرها، بحيث اصبحت العشيرة بديلاً لعدد من مؤسسات المجتمع المدني. وكانت العشائر العراقية تدين بالولاء للرئيس السابق صدام حسين، الذي عهد الى ابن عمه راكان رزوقي المجيد مسؤولية مكتب العشائر. كما عين افراداً من عشائر الدليم في مناصب مهمة في الدولة. وبعد أيام قليلة من اندلاع الحرب ظهر صدام حسين على شاشة التلفزيون العراقي مخاطباً قادته العسكريين الذين يواجهون الاحتلال الأميركي بأسمائهم ونسبهم العشائري، في محاولة بائسة لاستشارة عصبيتهم القبلية بدل استثارة ولائهم الوطني. والواقع، ان التركيبة المجتمعية لعراق اليوم ولدت أجيالاً جديدة لا تعرف معنى الانتماء والولاء للوطن ومفهوم الدولة الحديثة وروح المواطنة ولا الانتماء الحزبي أو النقابي. فليس من الغريب، اذاً، ان تستعيد القبيلة والطائفة سلطتهما بعد سقوط النظام السابق، وأن تظهر من جديد التحالفات والعصبيات القبلية والطائفية وفي جميع المحافظاتالعراقية. وهكذا تحاول العشائر العراقية من جديد تنظيم نفسها للعب دور سياسي كبير بعد سقوط النظام وانهيار الدولة الشمولية بمؤسساتها وأجهزتها البيروقراطية، التي لم تستطع توليد اشكال من التلاحم والاندماج المديني بين طبقات وفئات المجتمع المختلفة.