مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    ارتفاع الصادرات السعودية غير البترولية 22.8 %    برعاية ولي العهد.. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    انتفاضة جديدة في النصر    استعراض مسببات حوادث المدينة المنورة    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    «الأرصاد» ل«عكاظ»: أمطار غزيرة إلى متوسطة على مناطق عدة    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    نهاية الطفرة الصينية !    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    الأمين العام لاتحاد اللجان الأولمبية يشيد بجهود لجنة الإعلام    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمرد الفلوجة والرمادي وغيرهما نتيجة تبعات تاريخية واجتماعية وسياسية واقتصادية سابقة . العصبية المناطقية والروابط البدوية ودورها في تشكيل العراق الحديث ... سنجق الانبار نموذجاً
نشر في الحياة يوم 11 - 11 - 2004

في ما يأتي بحث يتناول الواقع الاجتماعي والسياسي والقبلي لمحافظة الأنبار في العراق، التي تضم ما بات يعرف ب"المثلث السني" المتمرد على سلطة الحكومة العراقية الموقتة، من خلال الدراسة الاجتماعية التاريخية، وبالذات دراسة الطبيعة القبلية وفهم العلاقات القبلية بين سكان المنطقة وطبيعة علاقتهم بالدولة والسلطة الحاكمة.
يكثر الحديث الآن عن محافظة الانبار، وهي التسمية الاخيرة في سلسلة اسماء أطلقت على هذه المنطقة، منها محافظة لواء الرمادي، ولواء الدليم، نسبة الى تمركز قبيلة الدليم في هذه المنطقة، وقبلهما "سنجق الدليم". ففي زمن مدحت باشا حيث قسّم "الوالي المصلح" العراق إلى عشرة سناجق: بغداد والسليمانية وشهرزور والموصل والدليم وكربلاء والديوانية والبصرة والعمارة والمنتفك. لكن الحال لم يدم طويلا اذ ألغي سنجق الدليم أواخر عام 1870 وأصبح قضاء تابعا لسنجق بغداد العائد لولاية بغداد، تتبعه ناحيتا هيت وكبيسة. وأصبحت عانه قضاء تتبعه نواحي القائم وحديثة وجبة آلوس. والغريب أن قصر مدة حصول محافظة الانبار على تسميتها سنجقاً طغى وساد على كل التسميات للسناجق الأخرى، حتى بات مجرد تعبير "السنجق" يفهم منه ان المقصود ما يطلق عليه الآن "محافظة الانبار". والسنجق هو احدى التسميات الإدارية التي تتكون منها الولاية في العهد العثماني، أي إن الولاية تتكون من سناجق بما يعادل اليوم المحافظة أو اللواء.
الانبار مدينة عراقية قديمة بنيت زمن الاحتلال الفارسي للعراق قبل الإسلام، وكانت تستعمل كاحدى القلاع المتقدمة للسلطة الفارسية في تصديها لهجوم القبائل البدوية القادمة من الصحراء. وبنى العباسيون مدينة الهاشمية القريبة من الانبار كي تكون عاصمة لهم قبل انتقالهم إلى بغداد.
أهم عشائر الانبار
الدليم كانوا يسكنون قرب القائم غرب العراق قرب الحدود السورية - العراقية من جهة الفرات قبل أن تزيحهم قبيلة العقيدات في نهاية القرن الثامن عشر عن مواطنهم وأجبرتهم على الهجرة جنوبا في اتجاه النهر فدفعوا بدورهم قبائل الاشجرية والجنابيين أمامهم ووصلوا الى الفلوجة فيما اندفع الجانبان في اتجاه نهر الصقلاوية ووصلوا إلى منطقة اللطيفية. شعر الدليميون بوطأة قربهم من مركز الحكومة، التي أثقلت كاهلهم بمطالبها الضريبية وكسرت مقاومتهم بالقوة حين حاولوا المقاومة في أعوام 1799 و1819 -1820، ومنذ عام 1842 أصبحت قبيلة الدليم خاضعة للحكومة وعندما امتنعت عن دفع الضرائب في زمن ناظم باشا 1910 حطم قوتهم بصورة نهائية، لذلك لم يجد البريطانيون معهم صعوبات تذكر، سواء عندما احتلوا منطقتهم في خريف 1917 أو خلال ثورة العشرين الكبرى في العراق.
وعند تأسيس الدولة العراقية الحديثة وقف شيخ مشايخ الدليم علي بن سليمان البكر مع الإنكليز، خصوصا عند العمل على تأسيس المملكة العراقية عندما خاطب الحاكم الإنكليزي العام، لدى سؤاله هل يؤيد تنصيب فيصل ملك للعراق أم لا، فقال قوله المشهور: يا محفوظ ألي يريده الإنكليز نريده أحنا أي الذي يقبل به الإنكليز نقبل به.
تتكون الدليم بالأصل من أربع عشائر هي البو علوان والبو فهد والبو رديني والمحمادة. وبعد تغير مكان ديرتهم انضم اليهم البو عيسى والجميلة وهؤلاء يعودون إلى زبيد الصغرى وكأبناء عمومتهم العبيد والجبور. وزادت أعداد البو رديني كثيرا مما جعلها تتخطى إطارها كعشيرة، اذ لا يتعين مجال نفوذ الشيوخ بحجم عشائرهم أو مجموعاتهم بل بالواقع الجغرافي حيث مارس البو ذياب حردان العيشة ومطلق الشاوش، سلطتهما على الضفة اليسرى وحكم علي بن سليمان البكر من البو عساف الضفة اليمنى وهؤلاء كلهم من البو رديني.
والدليم بغالبيتهم من أهل السنة، ولكن يوجد بينهم شيعة، خصوصا فخذ البو علوان وبعض الحمولات المنتشر في الضفة الشرقية من نهر دجلة، أي انه لا يوجد شيعة في الانبار ولكن يوجد أفراد من الطائفة الباطنية النصيرية في مدينة عانه. أما الجميلات فيوجد بينهم شيعة، خصوصا الذين هاجروا إلى بغداد في بداية القرن العشرين. كما منهم المذاهب المالكي والحنفي والحنبلي، وقدر عدد أفراد الدليم بحدود 30 ألف فرد أوائل القرن الماضي.
زوبع. تعود بنسبها إلى طي وهي تشكل مع شمر قرابة قوية وجزءاً أساسياً من تجمع شمر. وتتألف زوبع من ثلاث وحدات كبيرة هي حيوات وقتادة وفداغة. وكان أول ظهور لهم مع هجرة شمر إلى العراق مطلع القرن الثامن عشر. ففي كتاب "بغداد" لنظمي زاده يذكر وجود شمر عام 1696 عند الفلوجة وأنها اجتازت الفرات ونهبت الأرض قبل أن يطردها باشا بغداد.
كان الزوابعة يكرهون الخدمة العسكرية، وعندما دعت الحكومة التركية عام 1915 القبائل إلى "الجهاد"، وعد الشيخ ضاري بتقديم 170 رجلا لقاء مكافأة قدرها 2000 ليرة ذهب لكنه لم يستطع جمع أكثر من عشرة رجال.
يشكل الفلاحون نحو سبعة أعشار القبيلة والبقية رحل ونصف رحل.
وتشمل منطقة زوبع أبو غريب و الرضوانية ومحيط المحمودية وتمتد إلى الشمال الشرقي حتى الصقلاوية نهر الكرمة، وفي الجنوب الشرقي حتى قرب المحمودية.
يعيش في منطقة زوبع عدد كبير من المستوطنين الغرباء وهم ينتمون جزئيا إلى قبائل أخضعها الدليميون في نهاية القرن الثامن عشر من أمثال الموالي و الجنابيين و القرطان الكرطان والبو سودا. فيما يعيش في شمال وشرق زوبع بني تميم. كان عدد زوبع والملتحقين معهم في عشرينات القرن الماضي بحدود 200 ألف شخص.
كانت العلاقة سيئة بين الإنكليز وزوبع في بداية دخول الإنكليز إلى العراق لأسباب عدة منها مجموعة من الإجراءات والقوانين التي أراد الإنكليز تطبيقها، في منطقة تغلب عليها البداوة التي اعتادت على عدم الخضوع والتمرد على السلطات الحكومية حيث وجدت صعوبة في إخضاعها، اذ لم يشعر أبناؤها على مر عهود طويلة بالحاجة إلى الخضوع لتنظيم إداري وسياسي غير العشيرة. ومما زاد الطين بلة أن تولي المستشرق الإنكليزي العقيد لجمان منصب حاكم لقضاء الدليم والمنطقة المجاورة لها، أدى إلى توتر العلاقات بين زوبع والسلطات الإنكليزية، كما إن سوء أخلاق لجمان وتعامله الفظ مع القبيلة وشيخها ضاري المحمود، قد أدى إلى أن يقوم هذا الشيخ بقتل لجمان في الحادث المشهور: "كان لدى لجمان كلب، وكعادة الأوربيين فان الكلب يرافقهم وهو جزء من العائلة. المسلمون بدورهم يعتبرون الكلب نجساً وبالتالي يتحاشون لمسه. وكان كلب لجمان قد اقترب من الشيخ ضاري فقام الأخير بنهر الكلب كي لا يقترب منه مما حمل لجمان على سؤال الشيخ ضاري عن السبب فقال له إن الكلب نجس، فقال لجمان: هذا الكلب أنظف منك يا شيخ". أدى الحادث إلى أن ثورة القبيلة لشيخها في فترة ثورة العشرين. واعتبرت السلطات الإنكليزية في بغداد مقتل لجمان خسارة كبيرة اذ كان مستشرقا وعارفا بشؤون العراق بشكل كبير. وأخيرا اعتقل الشيخ ضاري وحكم عليه بالإعدام لكن الحكم لم ينفذ.
الجنابيون. كانوا يعيشون في منطقة الدليم قبل أن يطردهم هؤلاء، ويعيش الجنابيون على الجهة المقابلة لزوبع ويعش سدس القبيلة فوق المسيب تقريبا. وكان عدد نفوس الجنابيين في عشرينات القرن الماضي نحو 18 ألف شخص، في غالبيتهم مزارعون. ويتألف الجنابيون من أربعة افخاذ: البو معلى والبو صقر والنوافلة والبو غربه. وهم ينقسمون بالتساوي تقريباً بين السنة والشيعة. ومن يسكن الانبار منهم هم من السنة فيما من يسكونان خارجها خليط من الاثنين.
كما أن هناك مجموعات عشائرية أخرى منتشره في محافظة الانبار مثل الجغايفة والبو حيات و الموالي والبقارة طي والعميرات والفحل والبو بنا.
الأقضية والقرى في سنجق الانبار
كانت عانه قضاء تتبعه حديثة وآلوس، أما قضاء الدليم الرمادي حالياً فتتبعه هيت والفلوجة وكبيسة والصقلاوية.
وراوه وعانة مدينتان تقعان في الشمال الغربي للعراق على ضفاف نهر الفرات: مدينة عنه أو عانه هي من المدن القديمة والتي يرجع تاريخها إلى أربعة آلاف سنة وكانت تشكل مركزا مهما بل كانت أحد المراكز المهمة في السيطرة على منطقة شمال الرافدين. وشهدت عانة وحديثة فترة ازدهار في الحقبة التي أغلق البرتغاليون فيها البحر الأحمر، فصار على تجارة الهند إن تبحث لنفسها عن طريق بري يقود إلى الغرب، فكانت عانه هي النقطة المركزية في شبكة طرق قوافل واسعة الانتشار التقت فيها طرق البصرة وبغداد والموصل وانطلقت منها إلى حلب وطرابلس ودمشق. وكانت عانه مركز سلطات أبي ريشه الجمركية في القرن السابع عشر، ودخلت مع ما حولها من القرى والاقضية في الصراع القائم بين العثمانيين والفرس، وذلك عندما كلف شيخ الموالي الذي كانت عانه مركزه بالتصدي للفرس وطرده من منطقة شمال الفرات.
وخضعت عانه وراوه وحديثة ومدن السنجق الأخرى لسيطرة القبائل المحيطة بها، ولما كان وقوعها على حافة الصحراء، فانها كانت دوما تعاني من سيطرة القوى القبلية عليها. وعلى رغم كون سكان هذه الاقضية مزارعين ينتمون إلى أصول قبلية مختلفة أيضا، كما أن قسماً منهم من سكان المنطقة القدماء، نشأت بينهم عصبة جديدة هي عصبة "مناطقية"، ساعد تأثير قيم البداوة على تكوينها. لهذا عندما بدأ أهالي عانه وراوه والمناطق المجاورة بالنزوح إلى بغداد سكنوا في منطقة سوق حمادة والرحمانية ومنطقة جامع الشيخ بشار شمال شارع حيفا حاليا في الكرخ، وأخذت تتكون إحياء بأسماء البلدات التي جاؤوا منها.
في الانبار كانت الإمكانيات الزراعية محدودة علما إنها تقع على ضفاف الأنهار، خصوصا عانه التي تقع على شريط محاذ للنهر، تضيق سعته إلى أمتار محدودة. ويمكن القول إن وقوعها بالقرب على حافة الصحراء وبعدها عن مراكز المدن الكبير جعلها تتأثر بقيم البداوة التي تحتقر الزراعة كما هو معروف.
الدولة الحديثة ودور السنجق
هنا لا بد من إلقاء نظرة على دور العشائر في تأسيس الدولة العراقية الحديثة الأولى عام 1921، عندما شرعت السلطات البريطانية بالاتصال بأغلب الشرائح الاجتماعية المدنية والعشائرية والدينية كي تصل الى شكل الدولة الجديدة.
وكانت القبائل والعشائر العراقية بأقسامها المستقرة ونصف الرحل والرحل تشكل الثقل الأكبر من الحجم السكاني 65 الى 70 في المئة، وكان البدو يشكلون نسبة لا تتجاوز 15 في المئة. وعلى رغم ان القبائل والعشائر شكلت الجزء الأكبر من المجتمع العراقي، إلا إنها لم تكن في موقع القيادة في العملية السياسية. وبقيت المدينة الأقوى تأثيراً في بناء ذلك الكيان "الدولة" وفي صنع القرارات السياسية وفي العملية التغييرية للمجتمع العراقي.
وصاحب بناء الدولة العراقية وترسيخها استقرار الوضع الاقتصادي والسياسي وظهور مؤسسات الدولة الحديثة من جيش وشرطة ودوائر أخرى. واثر هذا كله في الوضع العشائري اجتماعيا واقتصاديا، ففي الجانب الاقتصادي، حدث تغير في نمط العلاقة الاقتصادية التي تربط شيخ العشيرة بأفراد عشيرته، ليصبح شيخ العشيرة سيد الأرض وأبناء العشيرة مستخدمين لديه، ولم يعد هؤلاء يتبعونه كما في السابق، وهذا ما شهدناه في وسط العراق وجنوبه.
الا ان بعض العشائر حافظت على العلاقات السابقة الاقتصادية بين الشيخ وأفراد قبيلته بأن يجلب الشيوخ مزارعين من غير أفراد العشيرة للعمل لدى العشيرة، اذ يرفض أبناء بعض العشائر العمل بالزراعة كونها تحط من قيمهم الاعتبارية مفهوم البداوة. وعملت القبائل والعشائر الرحل ونصف الرحل على المحافظة على نمط العلاقة القديمة ولكنها في اغلب المناطق لم تستطع النجاح بحكم الظروف التي عملت على تشجيع الاستقرار وترك طريقة العيش الرعوي، فيما بقيت العلاقة الاقتصادية في منطقة الانبار بين القبائل وشيوخها أكثر محافظة على النمط القديم، لكون حجم هذه المنطقة الزراعي صغيراً مقارنة بالحجم الزراعي للمنطقة الوسطى أو الجنوبية.
اتجه قسم كبير من أبناء الانبار للعمل في الجانب الحكومي في فترة انكفاء الشيعة عن الانخراط في العمل الحكومي خصوصا في فترة التكوين، أي المرحلة الأولى لبناء الدولة العراقية الحديثة. وكان الدور الذي لعبته القبائل والعشائر العراقية في بداية القرن الماضي كبيراً في صنع
الأحداث، وأهمها ثورة العشرين التي لعبت عشائر الفرات الأوسط الدور الأساسي والمحوري فيها، وكان دور طبقة الأفندية كبيراً في تحريض رجال الدين وقبائل الفرات الأوسط على الثورة وإعلان التمرد على السلطات البريطانية. وعندما انتهت الثورة وبدأ العمل على تأسيس الحكومة الوطنية تولت طبقة الافندية اغلب المركز الإدارية. ومما تجدر ملاحظته أن الثقل الأساسي في تولي مراكز الدولة تم بالاعتماد على الشريحة التي كانت تتولى زمام أمور العراق في العهد العثماني.
لم يتول رؤساء العشائر السنية منصبا سياسيا. فلم يتولى شيخ قبيلة سنية رئاسة الوزارة أو مناصب وزارية حساسة، بل أن أهل المدن هم من تولى السلطة السياسية. أما شيوخ العشائر فعينوا أو انتخبوا في البرلمان أو مجلس الأعيان وفي بعض الوزارات التي لا تعد من الوزن الثقيل. أما الوزارات المهمة الخارجية والدفاع والداخلية فكانت على الدوام في أيدي أهل المدن، من هنا نلاحظ إن السلطة الحقيقة بقيت في أيدي "سياسيي المدن".
العهد الملكي
اتسم العهد الملكي باستقرار سياسي على رغم بعض الأحداث العنيفة التي مرت به من ثورة الاثوريين وانتفاضات الفلاحين في منطقة الفرات الأوسط والأدنى أعوام 1935 و1936 و1937 وحركات البارزاني عام 1946، إلا انه يمكن القول إن الوضع العام كان هادئاً. وانخرط عدد كبير من سكان السنجق في دوائر الدول خصوصا الجيش والشرطة، فأصبح القسم الأكبر من قادة دوائر الشرطة والسفر والجنسية ممن ينتمون إلى منطقة السنجق وبالخصوص سكان منطقة عانه ورواه وحديثة، واخذ مسؤولو هذه الدوائر بدورهم يشجعون أبناء مدنهم وقراهم على الانضمام إلى هذه الدوائر، وكانت عصبة السنجق تلعب الدور الأساس في قبول أبناء السنجق في هذه الدوائر في كليات الشرطة والجيش.
ومع توسيع الجيش العراقي في أربعينات القرن الماضي تم قبول قسم كبير من أبناء السنجق، خصوصا من قبيلة الدليم والقبائل الساكنة في هذه المنطقة، في صفوف الجيش واستمر قبولهم في شكل مستمر في السنوات اللاحقة. ولم يظهر دور كبير لأبناء السنجق العاملين في الجيش العراقي إلا بعد سقوط الجمهورية الأولى عام 1963 وخصوصا بعدما تولى ابن السنجق عبدالسلام عارف السلطة التي تميزت فترة حكمه بالتميز الطائفي والمناطقي، فأصبح أهل السنجق هم الطبقة الحاكمة واستمر الحال في عهد أخيه عبد الرحمن، وإن بنفس طائفي اقل، الا أن أبناء السنجق بقوا الحاكمين الفعليين. وما كان انقلاب عام 1968 ليتم لولا اتفاق ثلاثة من أبناء السنجق بالتآمر على ابن "سنجقهم" عبدالرحمن عارف وهم سعدون غيدان وعبد الرزاق النايف وإبراهيم الداود.
في العهد البعثي
وعمل النظام البعثي على اعادة احياء الدور العشائري خلال السنوات الماضية والتركيز عليه بدرجة كبيرة. فازدهرت القيم القبلية على حساب "الدولة المدنية"، وهذا يعود في الواقع إلى عام 1963، فبعد سقوط الجمهورية الأولى تولى السلطة خليط من العناصر التي رفعت شعارات قومية ولكنها في حقيقة الأمر فئات تحمل قيماً ومفاهيم فئوية ومناطقية وطائفية. ويقول عالم الاجتماع الكبير الدكتور علي الوردي "ان التناقض بين الحضارة والبداوة كبير، فإما أن نكون متحضرين أو نعود إلى الصحراء، فلا انتقاء ولا توافق ولا انسجام بين قيم الحضارة والبداوة. إن سمات البداوة هي القبيلة - الغزو - التفضل الذي يشمل الكرم والسخاء والنخوة وغيرها. أما الحضارة فهي على العكس من ذلك تماما. انها الدولة - العمل اليدوي - عدم الاهتمام بقيم التفضل".
لكن العقلية القبلية المشوهة التي حكمت العراق خلال 40 عاما من منطلق قبلي ومناطقي وفئوي، أدت إلى تدهور كبير أصاب العراق، وألحق تشويهاً بالبنية الاجتماعية، مما يعد من اكبر الكوارث في تاريخ العراق الحديث. اذ أصبحت للقبائل مضايف في بغداد والمدن الأخرى التي أصبحت مراكز للقبائل والشيوخ. والادهى هو ظهور تحالفات قبلية تحمل تسميات ديمقراطية!
وجاءت الحرب العراقية - الإيرانية ليزداد النفخ الطائفي، بخاصة بعدما ظهر الخميني بأطروحاته وما صاحب ذلك من مد كبير في العراق لدى قسم من الشيعة الذين نظروا إلى الخميني باعتباره قائداً إسلامياً يمكنه أن يساعد في رفع الحيف عنهم. وأحدثت تلك الظاهرة رد فعل عنيفاً لدى السلطة في بغداد، فاستغلت تلك الظروف لاستخدام كل الوسائل المتاحة في الشحن الطائفي. وفي الوقت الذي تصدى فيه للمد الشيعي اخذ صدام يغض الطرف عن صعود التيار السلفي خصوصا في منطقة الانبار، ومما ساعد ذلك التيار على الانتشار استمرار الحرب العراقية - الإيرانية.
وبعد الحرب عمل النظام على الحد من نشاط التيار السلفي، ولكن ذلك التيار كان قد رسخ أقدامه بما جعل استئصاله عملية صعبة خصوصا أن قسماً كبيراً من أفراد الأجهزة الأمنية والمخابراتية هم من أبناء السنجق الذين انتشر بين أهليهم التيار السلفي. اذ أن 70 في المئة من أهالي الفلوجة الذين تراوح أعمارهم بين 20 و 45 عاماً كانوا يعملون في الأجهزة الأمنية والعسكرية قبل سقوط النظام.
وبعد دخول صدام إلى الكويت عام 1990 وما أعقبها من هزيمته وقيام الانتفاضة عام 1991، واجه ظرفا صعبا وكان في أمس الحاجة إلى قوات تساعده في قمع الانتفاضة، فكانت قوات الحرس الجمهوري هي اليد الضاربة، وكان التيار السلفي عوناً.
وفي عام 1994 انتهج النظام سياسة الحد من هذا التيار، لكنه كان في وضع ضعيف لا يمكنه من قضم هذا التيار الذي يرتبط كثير من أبناء السنجق ارتباطاً عشائرياً مناطقياً به، وبالتالي أصبح من المستحيل القضاء عليه. عند ذلك تغيرت إستراتيجية النظام بالتقرب من التيارات السلفية من خلال القيام بما يسمى بالحملة الإيمانية التي سهلت لكثير من العناصر المخابراتية والأمنية والعسكرية أن تتلبس بلباس الدين فيما اثر التيار السلفي فعلاً في توجهات بعض العناصر الاستخباراتية.
وشهدت المرحلة التالية تداخل التيار السلفي بين القبائل والعشائر التي يعتمد عليها صدام في حكمه، وضعف النظام وعدم قدرته على معاداة الجميع، ولبوس النظام الوجه الإيماني ببناء الجوامع والمدارس الدينية، والعمل على نشر الطرق الصوفية وبناء علاقات مع التيارات الإسلامية السنية الأخرى.
ومن الملاحظ أن هنالك ظواهر وخصوصيات انفردت بها الانبار عن مناطق العراق الأخرى. اذ لم يحدث أن جرت هجرة من المناطق المختلفة من الانبار واليها خلال الأعوام ال200 الماضية. وتشكل الصحراء الجزء الأعظم من محافظة الانبار مما يبقي القيم والروابط البدوية قوية. كما يمتاز سكان السنجق بوجود عصبية قوية تجمعهم وهو ما يتجلي في التخاطب بينهم بكنية ابن العم على رغم انهم ينتمون إلى قبائل متعددة. فالعصبية القبلية توسعت هنا وأصبحت عصبة السنجق هي المعيار الأكبر. فالمجتمع العشائري يقوم على نوع من العلاقات والروابط الاجتماعية التي تستمد قوتها من وحدة الأصول العرقية لأبناء العشيرة الذين ينحدرون من جد أعلى واحد جمعت بينهم عصبية. لكن عصبية السنجق تجاوزتها إلى أنواع أخرى من العصبيات: عصبية التحالف العشائري وعصبية الجوار وعصبية المكان. على إن هذه العلاقات والروابط الاجتماعية القائمة على أساس "العصبية" كانت تفرض التزامات معينة على أفرادها كما كانوا، في الوقت نفسه، يتمتعون بما تجلبه لهم من حقوق وامتيازات. وفي العصبية يدخل الأفراد في صلب ضمائرهم الشعور بالمسؤولية والوازع الخلقي نحو العصبية ويستنكفون عن القيام بما يخالفها.
إن الوضع القائم الآن في محافظة الانبار، في الفلوجة والرمادي وغيرهما من مدن السنجق، هو نتيجة التبعات التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية السابقة، وبالتالي كان سقوط الدولة العراقية ونظامها لأبناء هذه المناطق ضربة في الصميم.
* باحث عراقي في الشؤون الاجتماعية التاريخية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.