القبيلة تضرب في القَبل. ما قبل الحاضرة - المدينة/ الاستقرار. إنها العيش في البدايات. في البطون والأفخاذ. ما قبل مفهوم السياسة و الأيديولوجيا والمواطنة. بمعنى آخر هي وجود ما قبل مفهوم التاريخ أو قل هي وجود بتاريخ لا تاريخ له!! واذا كان تاريخ المدينة هو تاريخ العقل كما يقال في فلسفة العمران الحديثة، فان "تاريخ" القبيلة هو تاريخ الميثولوجيا. وخطاب القبيلة بسيط وبدئي - قبلي - شفوي، محفوظ، سمات وعلامات وإشارات ومقامات ومرامات. إنها مسرودات منضبطة صارمة لا شيء يخرج عن نصها الاجتماعي - الثقافي المنطوق والممارس عن ظهر قلب، المكرر بلا كلل في طرائق عيش ونمط إنتاج ومنطوق ثقافة وأحوال، بقيت لقرون على حالها حتى ظهر الاستعمار ولورنس العرب والنفط. وتطويع الدولة لخدمة القبيلة الحاكمة وحلفائها مسألة دارجة في المجتمعات العربية التي غلب عليها التكوين القبلي، وقد شكلت إلى حد بعيد أحد أنساق الدولة العربية منذ نشأتها وحتى الآن، إذ اختطفت القبيلة الدولة ووظفتها لمصلحة مفهوم الانتماء القبلي على حساب مفهوم الانتماء الوطني. ومفهوم الولاء للقبيلة على حساب الولاء للوطن. والانفراد بالمصلحة الفردية الخاصة على حساب المصلحة العليا للدولة. وكما تورطت القبيلة في المدينة، تورطت المدينة، بدورها، في القبيلة، ككيان اجتماعي مغترب عن المجتمع المدني، قذفت به صدفة جيولوجية إلى الحداثة. وإذا كانت للقبيلة عشائرها وفصائلها وبطونها وأفخاذها وأرهاطها ومراتبها، فان للمدينة طبقاتها ومؤسساتها وعلاقات انتاجها البينية المتشابكة. لقد اختطفت القبيلة الدولة. إذ تطفلت، بنظام عصبيتها المبني على قرابة الدم والنسب، على نظام المدينة - الدولة المبني على فلسفة المواطنة، المنتظمة في مؤسسات تعتمد مفهوم السلطة Authorit القائم على صلاحيات محددة خاضعة لضوابط إدارية بيروقراطية صارمة ومرجعية دستورية، وتشريعات قانونية قضائية. والنظام القبلي الذي تمكن من الاستيلاء على الدولة وتوظيفها لحسابه مصالحه، اتكل على مفهوم سلطة القوة Power المشخصنة في الفرد - الراعي/ القائد الذي يتكل عليه في العقد والحل، وهي سلطة القوة التي تصبح في الانظمة الشمولية مطلقة غاشمة، وقد خبرناها في أنظمة "الأخ القائد" و"القائد الضرورة" كما في "جماهيرية" القذافي وعراق صدام. لقد بعث صدام البعثي/ العفلقي قبيلته في مفاصل دولته الشمولية: الجيش والاستخبارات والنفط، بعدما أجرى عملية ابدال وإحلال، إبدال العضوية الحزبية بالنسب القبلي - العشائري - العائلي، وإحلال الولاء للقائد - الشيخ القبلي محل الولاء للحزب وأيديولوجيته، وتركيب جيش قبلي طائفي خاصالحرس الجمهوري فوق الجيش الرسمي، واختزال عقيدته العسكرية في حماية سلطة القبيلة وإدامة حكمها في ذريتها. والحاصل، بدل بعث الأمة من تخلفهاكما تروج أدبيات حزب البعث العفلقي! بُعثت القبيلة في الدولة! وحدث الأمر نفسه في ليبيا. فالانقلاب العسكري الذي جاء باسم القضاء على المحسوبية والوساطة والقبلية الخ...، ما لبث ان تحول إلى حكم قبلي عائلي، أين منه "المفاسد" المحسوبة على العهد الملكي، الذي كان، على الأقل، عهداً دستورياً يوفر حياة سياسية حيوية، وان كان يأخذ في الاعتبار التوازنات القبلية في تركيبة البرلمان النيابي ومجلس الشيوخ والحكومة، لكنه لم يصل إلى حد الاحتكار القبلي المطلق للسلطة كما حال ليبيا اليوم. * كاتب ليبي.