أيام قليلة ويلتئم عقد القمة العربية في تونس وسط أجواء ملبدة بالغيوم وأحوال لا تسر وأوطان تتفتت وتعزل الواحدة تلو الأخرى وضغوط لم تشهد لها الدول العربية مجتمعة أو منفردة مثيلاً، أبرزها ضغوط أميركية لفرض هيمنة واضحة تحت ستار كلمة الإصلاح السحرية التي تحولت الى"صرعة الموسم"وهلوسات رافقت غيرة على الانسان العربي والمسلم نزلت علينا فجأة مع فائض من الحب المزعوم الذي تنطبق عليه مقولة"ومن الحب ما قتل". ومن هنا، ومن الأحداث الجسام التي تشهدها المنطقة من فلسطين الى العراق الى المشاريع التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب مثل مشروع"الشرق الأوسط الكبير"تتجمع التحديات الكبرى التي ستواجهها القمة وسط خلافات حول المشروع وغيره وحول الاصلاح الداخلي واصلاح الجامعة ومعظم القضايا والحلول المطروحة. والظاهر حتى الآن انها خلافات عميقة في الشكل والجوهر وفي الاستراتيجية وفي التكتيك وفي سبل مواجهة الضغوط الأميركية التي اشتدت عشية القمة وفي سبل الرد على التحديات وأولها التحدي الصهيوني المتمادي في الغي والظلم. ومن حق المواطن العربي أن يستخف بأي حديث عن القمة العربية وجدول أعمالها ومناقشاتها ونتائجها وبياناتها الختامية، وأن يسخر من الذين يعلقون عليها آمالاً أو أن ينتظروا منها إيجابيات أو خطوات عملية واستراتيجية موحدة فحكاياتها صارت تشبه حكاية إبريق الزيت، إن لم نقل أكثر، وتجاربنا معها مليئة بخيبات الأمل وحالات اليأس والإحباط والانتظار الممل والمزعج وكأننا بانتظار"غودو"الذي لم يأت وربما لن يأتي أبداً! ومع هذا فإن من واجبنا كإعلاميين أن نحاول ونحاول ونحاول ونكتب، على رغم اننا كنا نردد دائماً أغنية فيروز"كتبنا وما كتبنا ويا خسارة ما كتبنا"، أو نردد قول الشاعر بعد كل قمة"كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا". ومن مسؤوليتنا الأساسية ألا نيأس وألا نفقد الأمل في التعامل مع قضايا أمتنا، وبخاصة في المراحل الحاسمة والمصيرية، وأن نبحث عن العوامل الايجابية في أي حدث ونشجع على طرح بنود ومشاريع واقتراحات ومبادرات تحقق ولو الحد الأدنى من التضامن وتسعى للوصول الى هدف القيام بعمل عربي مشترك في أي مجال من المجالات وتعمل على بلورة موقف عربي موحد من أي قضية من القضايا. وضمن هذا الاطار يمكن القول ان القمة العربية العتيدة لا يمكن أن تتجاهل المخاطر المحدقة بأمتنا والمهددة لمصيرنا مهما كانت المبررات كما انها لا يمكن أن تخرج على شعوبها وعلى أعدائها وعلى العالم أجمع صفر اليدين بلا نتيجة ولا لون ولا طعم ولا رائحة وهذا يستدعي من القادة مناقشة المشاريع والاقتراحات والبنود المطروحة بموضوعية وإيجابية لا سيما مشروع إصلاح البيت العربي، والجامعة العربية بالتحديد، كخطوة أولى في طريق الألف ميل الموصول الى ولادة نظام عربي فاعل وواضح ومسؤول، فهل يحق لنا أن نتفاءل أكثر من اللازم وأبعد من الواقع عندما نحلم بأن تكون هذه القمة: قمة الرد على التحديات وهي كثيرة، وأولها التحدي الصهيوني الذي يزداد شراسة ووقاحة وتهديداً لمصير كل إنسان عربي وللقضية الفلسطينية على وجه الخصوص؟ من حقنا أن نحلم وأن نتفاءل وأن نطلق الصفات والنعوت على القمة العتيدة ولكن التجارب المريرة علمتنا أن نأخذ حذرنا ونتريث... وأن نتشاءم... أما واجبات القادة العرب فهي كثيرة وحتمية وتاريخية، وأي تقاعس هذه المرة في أي شأن من الشؤون سيحمل معه صواعق تفجيرات تصيب شظاياها الجميع من دون استثناء ويهدد المصير العربي كله والتاريخ لن يرحم القاعدين والمترددين والمشككين والمتهربين من تحمل مسؤولياتهم. في الماضي كان من الممكن الإفلات من قبضة القرار والهروب من حتمية القرار بافتعال خلافات أو أسباب وهمية، أو باختلاق ذرائع وحجج وهمية. أما اليوم فإن الهروب سيؤدي الى الهاوية، والتهرب ستكون له عواقب وأثمان باهظة يدفعها من يشارك به آجلاً أو عاجلاً. لم يعد هناك أي مجال للتشبه بالنعامة بتجاهل الأخطار أو باتخاذ موقف اللامبالاة من التطورات والتردد في اتخاذ قرارات حاسمة إزاء المتغيرات الكبرى. فالاستقالة من المسؤولية مرفوضة وممنوعة والكل جالس في سفينة واحدة، مهما حاول البعض النفي أو الزعم أنه بعيد من الخطر وأن رأسه لن يطاله سيف الخطر، ان غرقت لا سمح الله، غرقوا جميعاً، وان نجت ضمنوا الوصول الى شاطئ الأمان. فهل ستكون القمة المقبلة على هذا المستوى من المسؤولية والإدراك لحجم المخاطر حتى يطلق عليها عنوان"قمة الرد على التحديات"؟ أكثر الناس يشككون بها وبعنوانها ولكن المشاريع المطروحة توحي بأن تغييراً ما قد يطرأ على رغم أنها ستُعقد في ظروف مأسوية يمر بها العرب ووسط أجواء ملبدة بالغيوم السود. والمهم ان تتوافر عند القادة العرب النيات الصادقة والرغبة الأكيدة والارادة الحازمة باتخاذ قرارات استثنائية على مستوى الأحداث، تسهم في إنقاذ ما يمكن انقاذه وتلملم الجراح وترأب الصدع وتنهي الخلافات المصطنعة وتتصدى للمشاكل المتراكمة وتعيد بناء القوة العربية والموقف الموحد لأن من لا يعرف كيف يقرن إرادته بقوته لا قوة له. وفي انتظار البيان الختامي والقرارات لا نستطيع الحكم على المظاهر، فالعبرة في النفوس قبل النصوص وبالخواتيم وليس بالبدايات والمواقف المعلنة عبر الإعلام، والمهم ليس اتخاذ القرارات وتمرير جدول الأعمال الحافل بالعناوين المثيرة والمحشو العبارات الطنانة الرنانة بل في وضع آلية التنفيذ العملية ومتابعتها وتأمين سرعة البت بها وإزالة العوائق من طريقها ومعها الحساسيات والحزازات والحسابات الضيقة. المعلن والظاهر يوحي بأن البحث سيكون جدياً هذه المرة لا سيما بالنسبة الى مشاريع إصلاح البيت العربي وإعادة تأهيل جامعة الدول العربية لتتحول من ظاهرة صوتية الى أداة فاعلة لخدمة القضايا العربية والى صوت موحد يعبر عن مواقف العرب وتطلعاتهم ليس في الأمور السياسية فحسب بل في كل منحى من مناحي حياتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعلمية والرياضية والصحية. واللافت اليوم توافر الادراك بضرورات الاصلاح والخروج من النفق المظلم والافادة من التجارب الماضية والرغبة في تصحيح الأخطاء السابقة وسد الثغرات القائمة. فالمشروع الأساسي لإصلاح البيت العربي قدمه الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي باسم المملكة العربية السعودية وفي اقتراحات عملية وبناءة تتناول القضايا المطروحة كلها وبعده كرت سبحة المشاريع والاقتراحات والمبادرات وبينها مشروع الرئيس المصري حسني مبارك ومشروع الرئيس اليمني علي عبدالله صالح ومشروع آخر للرئيس الليبي معمر القذافي على رغم إعلانه الانسحاب من الجامعة واستقالته من الهموم العربية وانتقاده للعرب ووصفه لهم بأنهم"زي الزفت"!! وهناك مقترحات أخرى سورية ومغربية ولبنانية وفلسطينية أعلن أخيراً انه تمت غربلة هذه المشاريع وصولاً الى مشروع موحد لإصلاح البيت العربي. فلو نجحت القمة العربية في إقرار هذا المشروع ووضع آلية تنفيذ له ولم تؤجل البت به كما فعلت من قبل، فإنها ستكون قد حققت انجازها الأول للرد على التحديات ووضعت"القطار على السكة"كما يقول المثل، وعندها يمكن القول ان الخطوة الأولى في طريق إصلاح الوضع العربي قد اتخذت وأن علينا أن ننفض عنا غبار اليأس والاحباط وننظر للمستقبل بعين متفائلة وحذرة في آن لأن الحذر واجب والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين فكيف بمرات لا تحصى ولا تعد! ومشكلة العرب على الدوام انهم يتأخرون في اتخاذ القرارات وفي استغلال الفرص المتاحة فيدفعون الثمن مضاعفاً. وفي حال اقرار مشروع الاصلاح والبدء بخطوات اعادة توحيد المواقف وتحصينها قبل فوات الأوان علينا أن نصفق للقادة، على رغم ان التصفيق في عصرنا هذا صار اسفافاً، وأن ننتظر المزيد من الجدية في تحمل المسؤولية على رغم تأخرهم المتمادي في الوصول الى هذه القناعة، فخير لنا أن تأتي القرارات الجيدة متأخرة من ألا تأتي أبداً. إلا أن هذا لا يمنع من المطالبة بالسرعة، لا بالتسرع، في زمن تحدث فيه المتغيرات بسرعة خاطفة، لأن البطء والتباطؤ تحول في تاريخنا الى نكبات وكوارث وقنابل موقوتة. وآخر مثال على ذلك ما يجرى الآن في السودان من مفاوضات لايجاد نهاية سلمية لحرب طاحنة دامت أكثر من ربع قرن وأودت بحياة مئات الألوف من المواطنين الأبرياء ودمرت اقتصاد البلاد وأوصلته الى شفا الهاوية على رغم ما يملكه من ثروات نفطية وزراعية وطبيعية. ونحن نسأل الآن لماذا تأخر الحل؟ ومن المسؤول عن صب الزيت على نار الخلافات؟ ولماذا لم يسهم العرب في وقف الحرب ومنع تقسيم السودان بدلاً من أن يأتي الترياق من الولاياتالمتحدة ووفق شروط صارت معروفة للقاصي والداني؟ وما ينطبق على السودان ينطبق على العراق الجريح والمهدد في وحدته وكيانه وهويته العربية وعلى كل النكبات العربية الأخرى، وسينطبق أيضاً على قضية الصحراء المغربية التي تحمل مشروع فتنة دائمة بين المغرب والجزائر وتهدد بتفجير المغرب العربي والاتحاد المغاربي في أي لحظة وكان يمكن أن تحل حبياً وفق مبادئ الحق والشرعية والأخوة بين البلدين الشقيقين والجارين لولا إصرار أطراف معروفة في النظام الجزائري وفي جبهة البوليساريو على تأزيم الأمور والدعوة لفصل الصحرائ عن وطنها الأم على رغم معرفتها بعدم جدية الطرح. وكل الخلافات العربية القديمة والحديثة، العابرة والمستعصية، العامة والخاصة، تدخل في هذا السياق وتتحمل مع أشخاصها وأحزابها وأبطالها والبطولة هنا لها معنى آخر غير معناها الأصلي مسؤولية إيصال الأمة العربية الى ما وصلت اليه من تخلّف وفرقة وتشرذم ونكبات وإحباط ويأس ووقوع في براثن الاحتلال والأطماع الأجنبية. وتنطبق هذه الحال أيضاً على الأوضاع الداخلية. فالتباطؤ في الاصلاح والتأخر في فهم المتغيرات والتردد في التقاط صوت نبض الجماهير أدت الى أزمات ومواجهات وحالات تطرف وإرهاب دخلت على خطة أطراف خارجية وقوى صهيونية لاستغلاله كحصان طروادة تنفذ عبره الى الداخل وتضرب الدول العربية وتفتت وحدتها وقواها وتبدد ثرواتها ثم تحاول فرض مشاريع مشبوهة ظاهرها بريء وباطنها يحمل ألف إشارة تعجب واستفهام. ومهما كانت الهموم كبيرة والأوضاع مزرية، والأخطار قائمة، فإنه يمكن تطبيق مقولة"رب ضارة نافعة"على أوضاعنا، فلولا افتضاح أمر المطامع الأجنبية وانكشاف القناع عن وجوه الفئات الإرهابية لما كان يمكن لدعوات الاصلاح أن تنطلق ولا لخطواته أن تبصر النور، بل يمكن الجزم بأنه لو طال الزمن لكانت الأخطار أكبر وربما قد يكون قد فات أوان الاصلاح وضاعت فرص الانقاذ. ولكل هذه الأسباب تُعقد القمة العربية وسط تحديات هائلة تتطلب قرارات حاسمة ومواقف حازمة بالنسبة الى جميع القضايا المطروحة من فلسطين الى العراق، ومن الزبدة أي الوضع الاقتصادي الى المدفع أي إعادة بناء القوة العربية. والمرحلة الراهنة تتطلب تحركات سريعة وواسعة في كل الاتجاهات لدعم الشعب الفلسطيني ومساعدته على مواصلة الصمود في وجه المخططات الصهيونية الشارونية الليكودية الشرسة من دون التخلي عن مبادرة السلام العربية الموحدة التي تتطلب خطوات لإحيائها وإعادة طرحها على العالم مع آلية تنفيذ وخطوات عملية واتصالات مباشرة مع الدول المعنية. والمطلوب أيضاً دعم الشعب العراقي وعدم تركه وحيداً حتى يتمكن من استعادة حريته واستقلاله وكرامته والتخلص من الاحتلال الأجنبي بعد أن تخلص من الحكم الديكتاتوري الظالم. وبعيداً من العناوين الكبيرة يمكن الجزم بأنه لا يمكن القيام بإصلاح البيت العربي من دون وضع خطط عملية وواقعية وسريعة لتنفيذ مشاريع السوق العربية المشتركة واتفاقية التجارة العربية الحرة وحل مشاكل الحدود والجمارك والبطالة والأمية والتكامل الاقتصادي والصناعي وإحياء المنظمات الفرعية التابعة للجامعة لإعادة الروح للعمل العربي المشترك وإعادة الثقة الجماهيرية به ومعها الأمل بالمستقبل من أجل تبديد غيوم اليأس والإحباط والندب والبكاء على الأطلال وجلد الذات. مرة أخرى: هل ستستحق القمة شرف عنوان"قمة الرد على التحديات"؟... ومرة أخرى: العبرة في النفوس لا في النصوص... و"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". * كاتب وصحافي عربي.