طلعت علينا الصحف العربية وبعدها الأجنبية مطلع هذا الشهر في عناوينها الرئيسية بنبأ تقديم اقتراحات لبعض الوزراء العرب من أجل تبني مؤتمر القمة العربية المقبل في تونس لخطة البحر الميت، التي تكرم من دون وجه حق باسم اتفاق جنيف. وقد صدرت بعد ذلك تصريحات عدة تنفي هذا التوجه. وسواء كان هذا محاولة أو مغازلة أو مناورة، فإننا نتمنى ألا يكون لمؤتمر القمة المقبل أي صلة بهذه الخطة المشؤومة، إلا بالرفض والاستنكار، مهما كانت الصيغ والمبررات والمغريات التي ترافقها، ما دامت تسقط حق العودة، لانه لو بارك مؤتمر القمة خطة البحر الميت او سمح لبعض اعضائه بتبنيها أو غض الطرف عمن فعل ذلك، فإنه بذلك يقع في محظورات كثيرة، لسنا في حاجة اليها في هذه الظروف الحرجة. ولا يخفى على العارفين ان تبني خطة البحر الميت ينطوي على اخطاء فادحة في ميادين كثيرة. فهو خطأ قانوني، لأنه لا يجوز اسقاط حق غير قابل للتصرف، ولا تجوز المفاوضة عليه، أو التمثيل نيابة عن الآخرين فيه. فحق العودة حق غير قابل للتصرف حسب ميثاق حقوق الانسان وقرارات الجمعية العامة، واهمها القرار 194. ولا يجوز لأحد اسقاطه في اتفاق أو معاهدة سياسية. بل ان المادة الثامنة من معاهدة جنيف الأصلية وليست المزيفة لعام 1949، تنص على بطلان اي اتفاق أو تنازل جزئي أو كلي عن حقوق السكان الواقعين تحت الاحتلال اذا وقعوا على الاتفاق مع المحتل أو غيره. لقد هُجّر اللاجئون الفلسطينيون من ديارهم عام 1948 في أكبر عملية تنظيف عرقي في التاريخ الحديث، وهذه جريمة حرب. وقد منع اللاجئون من العودة الى ديارهم وقتل من حاول العودة، وهذه جريمة حرب ايضاً. وكل من ساعد على أي من هاتين الجريمتين، بالقول أو الفعل، أو التحريض، أو الدعوة بأي شكل، فقد ارتكب جريمة حرب ايضاً. ولسنا نتصور أي حكومة عربية ستمثل يوماً أمام محكمة الجنايات الدولية لهذا الغرض. وهو خطأ ديبلوماسي، لأنه لو أقر العرب اسقاط حق العودة لما أمكن اصدار قرارات لصالح الحقوق الفلسطينية في الأممالمتحدة بأغلبية كبيرة كما هي الآن. ذلك لأن البعثات الديبلوماسية الى الأممالمتحدة، مهما كان تعاطفها، لن تكون عربية اكثر من العرب. وقد رأينا كيف تساقط الدعم للقضايا العربية بعد اتفاقية اوسلو. وقد يؤدي ذلك الى اصدار قرارات جديدة تلغي القرار 194، وهذه كارثة كبرى، لأن العبء في هذه الحالة سيقع على الشعب الفلسطيني لاثبات حقوقه مرة اخرى، وهي الحقوق التي اكتسبها عالمياً منذ عام 1969 على الأخص. وهو خطأ ديبلوماسي ايضاً، لأن المساعدات الأوروبية للشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة، ولوكالة الغوث التي تقدم المساعدات لكل اللاجئين، ستكون مشروطة باسقاط حق العودة وسيصبح الفلسطينيون رهائن دوليين، أمامهم خياران: الجوع أو اسقاط الحقوق. وهو خطأ ديبلوماسي ايضاً، لأنه يعرقل جهود الجمعيات الاهلية في العالم، وكذلك الجاليات الفلسطينية في الخارج، التي تدعم الحقوق الفلسطينية، اذ يكون الجواب الجاهز من الدوائر الغربية، كما هو حاصل الآن:"لقد اسقطتم حقوقكم فكيف تطالبوننا بدعمها؟". ولا ينفع هنا القول ان فئة ضالة مدعومة بالدولارات هي التي اسقطت الحقوق. وهو خطأ اخلاقي ايضاً، لأنه يطعن ضمير الأمة في أعز وأهم حقوقها الثابتة، ولو تم لا سمح الله، فإنه سيترك علقماً في كل فم، ويعلم الله ماذا ستكون نتائج ذلك. ولن يغفر التاريخ لمن استؤمن على حق لصيانته والدفاع عنه اذا ما فرط فيه. والتاريخ لا يرحم. ونحن اليوم بعد عشرات أو مئات السنين نقرأ سيرة من أحسن ومن أساء، ولا ننسى ذلك. واذا قال قائل ان هذا لا يهم، فهو لا يحسن قراءة التاريخ، لأن حوادث الغد تطبخ اليوم على نار الأمس. وهو خطأ سياسي ايضاً، وهذا أوسع الأخطاء انتشاراً وأهمها تأثيراً، لأنه سيخلق فتنة داخل صفوف الشعب الفلسطيني خصوصاً، والشعب العربي عموماً. وعلى رغم ان اسقاط الحقوق غير القابلة للتصرف من أي مسؤولة هو باطل قانوناً، إلا انه يدفع الشعب الفلسطيني الى ايجاد منظمات بديلة تدافع عن حقوقه بعضها معلن وبعضها غير معلن. وهذا يخلق حالاً من العداء بين الشعوب وحكوماتها، نحن في غنى عنها اليوم. وإذا ما أقرت بعض الحكومات العربية اسقاط حق العودة، فإن الدعوة الى هذا الحق بين فئات الشعب قد تعتبر عملاً غير قانوني، يجازى عليه بالحبس أو الغرامة أو النفي. وهذه هي الوصفة الناجعة التي يسعى اليها أعداء الأمة لخلق حال من الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة. لأنه يستحيل ان يتخلى الشعب الفلسطيني عن حقوقه، كأنما يطلب منه ان يتخلى عن دينه ووطنه وهويته. والأمثلة على ذلك كثيرة. فكلنا يعلم انه بعد نكبة 1948 وثورة الشعب العربي على حكامه لخذلانهم، سقطت عروش وتغيرت أنظمة في كل الدول المجاورة لفلسطين وصولاً الى العراق. وكلنا يعلم انه ما من حدث مهم في تاريخ الشرق الأوسط على مدى نصف قرن، لم يكن فيه لقضية فلسطين دور اساسي. ومن ناحية عملية، فإن السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، حيث يوجد 30 في المئة من اللاجئين فقط، لن تستطيع اجبارهم على اسقاط حقوقهم. وفي ظل الظروف المضطربة، لن يمكن اخضاعهم بالقوة. ويكفي ان نعلم ان ياسر عبدربه يسير اليوم في رام الله، اذا خرج من بيته، في طابور من السيارات المصفحة. أما اللاجئون في البلاد العربية المجاورة، فلهم وزن كبير ولكنه صامت الى حد ما الى حين يشعرون بالتهديد المباشر لحقوقهم. وموقف الحكومات المضيفة يتراوح بين موقف الأردن اللين نحو خطة البحر الميت الى موقف لبنان الرافض لها تماماً. ويخطئ البعض اذا اعتقد ان توفير الحقوق المدنية، كما هو مطلوب في لبنان أو الحصول على المواطنة، كما هو حاصل في الأردن، ينقصان من حق العودة بأي شكل، فهو حق ثابت لمن يحمله. وهو ينطبق على المعتقلين في سجون الاحتلال، كما ينطبق على حاملي جنسية البلد المقيمين فيه، سواء كانوا في اسرائيل أو الأردن أو بريطانيا. واذا طبقت قوانين قهرية على اللاجئين في البلاد العربية، تمنعهم من الدفاع عن حقهم في العودة وتجرمهم اذا فعلوا، فإن هذا سيفتح المجال أمام نحو مليون فلسطيني في المهجر، للدفاع عن هذه الحقوق وسيزداد تحالف هؤلاء مع الجمعيات الاهلية في العالم، المدافعة عن حقوق الانسان، وستتكون جبهة عالمية ضد هذا القهر واسقاط الحقوق، تقوى وتشتد باستعمال الفضائيات والانترنت، وبعقد المؤتمرات الدولية وبتقديم المذكرات الى لجان حقوق الانسان في الأممالمتحدة التي تطالب الدول الاعضاء كل سنة بإثبات التزامها بحقوق الانسان. وعند ذلك سيكون موقف الحكومات العربية الداعية لإسقاط حق العودة ضعيفاً، معرضاً للنقد في كل المحافل الدولية، وهي ليست مثل اسرائيل تستطيع تجاهل هذا النقد. هذا كله، بالإضافة الى اللاجئين انفسهم، حيث هم في فلسطين والبلاد العربية، لن يعجزوا عن ايجاد وسائل للدفاع عن حقوقهم. وكما هو معلوم، فالشعب الفلسطيني، شعب مسيس وله تاريخ طويل في النضال والمعاناة في آن. ومثال واحد يكفي للتدليل على ذلك، لو ان واحد في المئة من اللاجئين رفض الإذعان لإسقاط حق العودة، لكان العدد من الرافضين خمسين الفاً في فلسطين وحولها، وهو عدد يكفي لإسماع صوته بشكل لا يمكن تجاهله. وهكذا فإنه من ناحية قانونية وديبلوماسية واخلاقية وسياسية، لا يجوز لأي دولة عربية الرضوخ للضغوط الاميركية - الاسرائيلية حفاظاً على مركزها وصلاتها، على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. ولا يجوز ايضاً المناورة أو المغازلة أو التساهل في الحقوق الثابتة لأن من تساهل في حق ثابت اليوم، يتساهل في آخر غداً، ولم نسمع يوماً ان اسرائيل تخلت عن عنصريتها الصهيونية، فكيف يتخلى العرب عن حقوقهم الثابتة؟ ولو تنخلوا عنها فعلاً أو مجازاً، فإن هذا باطل وغير حكيم، ولن يكتب له النجاح، وسيفتح عليهم أبواباً جديدة كم تمنوا لو بقيت مغلقة. ومن تعلم من التاريخ لن يدفع ثمن اخطاء جديدة. * المنسق العام ل"مؤتمر حق العودة".