يختتم عبدالله الغذامي أحدث كتبه "حكاية الحداثة" بالعبارة هذه: ... ومن هنا فإننا لسنا أمام نهاية للحداثة بقدر ما نحن على مشارف عصر "ما بعد الحداثة" ص 288. سوف أعود الى هذا المقطع الذي يحمل مصطلحين مهمين جداً لاحقاً. هنا أود التذكير أولاً أن الغذامي يعتبر واحداً من أكبر النقاد العرب في الوقت الراهن وله مجموعة كتب ومحاضرات ومقالات وقد حصد جوائز عدة... والاختلاف معه أمر وارد، وعندما يتعلق الأمر بالمصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها في نصوصه نقع في مشكلة. سننظر هنا في بعض المصطلحات التي استخدمها الغذامي منذ كتابه المعروف "الخطيئة والتكفير". ويعطي الغذامي مصطلح دريدا المعروف بالتفكيك La dژconstruction التقويض كما يسميه الدكتور البازعي اسماً مختلفاً هو التشريح وقد أنتقده البازعي في فهمه هذا المصطلح. ويقدم الغذامي هذا المصطلح على انه التشريح المنتهي بإعادة البناء. حجة الغذامي هي أنه يطبق التشريحية كما طورها وطبقها بارت في كتابه S/Z عندما درس قصة "سارازين" لبلزاك. يقول في كتاب الخطيئة والتكفير: ولقد أميل إلى نهج بارت التشريحي لأنه لا يشغل نفسه بمنطق النص وهو شيء لا يعني الدارس الأدبي بحال، ولأنه يعمد إلى تشريح النص لا لنقضه ولكن لبنائه، وهذا هدف يسمو بصاحبه إلى درجة محبة النص والتداخل معه بكل تأكيد. وأنعم به من هدف ص 87. القول بالميل تجاه نهج بارت يعني أن هناك نهجاً آخر يود الابتعاد عنه وهو التفكيك أو التقويض المتواصل الذي ليست فيه إعادة بناء والذي يشغل نفسه بالتمركز المنطقي في النص ونقضه وهو هنا نهج دريدا. يبين ذلك من جهة وينقضه من جهة أخرى وفي الوقت نفسه كلام الغذامي في الكتاب نفسه: "والتشريحية تعتمد على بلاغيات النص لتنفذ منها إلى منطقياته فتنقضها، وبذا يقضي القارئ على "التمركز المنطقي" في النص كما هو هدف دريدا. ولكن الغرض أخيراً ليس الهدم، ولكنه إعادة البناء - وإن بدا ذلك غريباً كما يقول دي مان ص 58. ويقرر الغذامي هنا أن نهج دريدا هو القضاء على التمركز المنطقي للنص ولكنه يضيف بأن الهدف من ذلك ليس الهدم وإنما إعادة البناء. من كلام الغذامي نفهم أن نهج دريدا ونهج بارت لا يختلفان، فهدفهما ليس الهدم وإنما إعادة البناء، وهذا يجعلنا نطرح السؤال البسيط: لماذا تميل باتجاه بارت طالما انك تقر بأن هدف دريدا لا يختلف عن هدف بارت ؟ الواقع أن الفقرات التي تبين اضطراب الغذامي أمام هذا المصطلح متكررة. منها ما ينقله بتصرف عن ليتش فيقول: "كل قراءة تشريحية هي نفسها مفتوحة للتشريح ولا يمكن أي قراءة أن تكون نهائية... ولكنها مادة جديدة للمشرحة" ص 57 ثم يضيف عن ليتش أيضاً الذي يلخص أفكار بارت: "يتمثل النص في التحول اللامحدود للمدلولات من خلال التحرك الحر للدال الذي يفلت بطاقة لا تحد، ولذا فهو غير قابل للانغلاق أو التمركز". ص 62. كلام الغذامي المنقول عن ليتش في تلخيص أفكار بارت يناقض قوله بإعادة البناء. إن إعادة البناء تعني التمركز، إيقاف المعنى وقتل تعدديته التي يجب أن يحملها النص والتي يقدمها بارت على فكرة إعطاء معنى محدد للنص: "إن تأويل بالمعنى الذي يعطيه نيتشه لهذه الكلمة نص لا يعني إعطاءه معنى وإنما تقييم من أي تعددية تمت صياغته S/Z ص 11، ثم يضيف بعد ذلك: "القراءة لا تعني بناء حقيقة" S/Z ص 16. ويجب ألا نتجاوز إشارته إلى تأويلية Lصinterprژtation نيتشه بالذات. كان بارت يسعى إلى اللانهائية، والعدمية وهذا شيء لا ينكره. بل ذهب في تفكيكه لقصة بلزاك الى درجة تفكيك بلزاك نفسه، وذلك بإظهار أن النص لم يكن صوته لوحده. لم أجد لدى بارت ما يدل على إعادة البناء ترى ماذا كان يفعل النقاد قبل دريدا وبارت أمام النص إذا كان الموضوع عند هؤلاء مجرد تشريح يهدف إلى إعادة البناء؟. الأثر La trace هذا مصطلح يرتبك أمامه الغذامي أيضاً. في كتاب الخطيئة والتكفير يقول: و"الأثر" هو القيمة الجمالية التي تجري وراءها كل النصوص ويتصيدها كل قراء الأدب وأحسبه هو "سحر البيان" الذي أشار إليه القول النبوي الشريف" ص 53. ثم يقول بعد ذلك مباشرة: "والأثر هو التشكيل الناتج عن الكتابة، وذلك عندما تتصدر الإشارة الجملة...". ص 53 ثم يضيف: "ومن هنا جاء دريدا ليقدم "الأثر" كبديل لإشارة سوسير. وهو يطرحه كلغز غير قابل للتحجيم، ولكنه ينبثق من قلب النص كقوة تتشكل بها الكتابة. ويصير "الأثر" وحدة نظرية في فكرة "النحوية"، ترتكز على الفكرة بكل طاقاتها، ومن خلاله تنتعش الكتابة، وإن كان سحراً لا يدرك بحس، ولكنه يتحرك من اعمق أعماق النص متسرباً من داخل مغاوره ليشغل طاقاته بالفاعليات الملتهبة، مؤثراً بذلك على كل ما حوله من دون أن تستطيع يد مسه..." ص 54. سحر البيان، بديل إشارة سوسير، التشيكل الناتج عن الكتابة، قوة تتشكل بها الكتابة.... أشعر بأن الغذامي ينقل كلاماً فقط من دون فهمه، وهذا يقود حتماً إلى تدمير المصطلح عندما يريد تطبيقه. وهذا ما حدث في كتابه "ثقافة الأسئلة" حين يتحدث عن قصيدة درويش "عابرون في كلام عابر" فيقول: "ومن هنا فإن الأمر بأفعاله الخمسة هو صاحب السيادة والسلطان وهو صانع الأثر ومحدث الفعل والانفعال ولذا سادت أفعال الأمر في سائر مقاطع النص... ومن شأن فعل الأمر أن يجعل الفاعل مفعولاً به..." حتى ينتهي الغذامي إلى القول: "وهذا هو المدخل الذي به نستطيع قراءة قصيدة درويش هذه من حيث ما أحدثته من اثر على الإسرائيليين الذين بادروا إلى ترجمة القصيدة... فثارت بعد ذلك ثائرة الإسرائيليين". ثم يضيف: "ولقد ذكرت هذه المعلومات لأنها تصور لنا "الأثر" الذي فعله هذا النص، وهو اثر انفعالي تساوت فيه درجات الانفعال من حيث بلوغها أقصى الغايات لدى كل المستقبلين، وذلك على رغم اختلاف الترجمات..." ثقافة الأسئلة 72 - 73. ثم يضيف: "لا يجوز لنا أبداً أن نحكم على قصيدة محمود درويش هذه من خلال ترجمتنا لها، ولكن الحكم ينطلق من خلال أثرها في نفس متلقيها" ص 78. ببحثه عن وقع النص في النفس والذي كان يعتقد انه هو الأثر دمر الغذامي مصطلح الأثر La trace مما يعنيه هذا المصطلح هو: البقايا من علامات سابقة. يتحدث دريدا عن عدم تشكل المعنى بذاته وأنه عبارة عن جزء من آثار تحيل دائماً إلى آخر. هذه الإحالات الدائمة وكما يوحي مصطلح الأثر تدل على الغياب في الوقت الذي تدل على الحضور بسبب ما بقي من الغائب. فأين هذا من الانفعال والأثر في النفس...؟ حداثة أم ما بعد حداثة؟ نعود إلى الفقرة التي بدأنا بها كلامنا والتي يسبقها رد الغذامي على من قال بنهاية الحداثة حيث نجد: "... لا يمكن أمراً كأمر الحداثة أن ينتهي في أي مجتمع كان، مهما بلغت محافظة المجتمع ومهما صار من انكسارات، فالأمر أخطر واعمق من ذلك بكثير، وليس للحداثة أن تنتهي، ومن المحال افتراض ذلك أو تصوره". ص 285. لكن الغذامي لا يتردد في القول بعد ذلك بقليل وبعد أن يبرر كلامه بشواهد من الحداثة كما يعتقد: "ومن هنا، فإننا لسنا أمام نهاية للحداثة بقدر ما نحن على مشارف عصر "ما بعد الحداثة" حيث الفسيفساء الاجتماعية وحيث التعدد والتجاور وحيث الكشف والإفصاح. وهذه مؤشرات لمرحلة ما بعد الحداثة، وهذا ما أرى أننا على مشارفه". ص 288. أولاً، اعترف أنني لا أستطيع أن افهم كيف يستحيل أن تنتهي الحداثة وفي الوقت نفسه نقول بأننا على مشارف عصر جديد هو ما بعد الحداثة والذي نعرف أنه مناقض للحداثة ويحاول تدمير مرتكزاتها؟ ثانياً يعتبر الغذامي الكشف والإفصاح من مؤشرات ما بعد الحداثة وهنا لا اعرف من أين استقى ذلك. إن الكشف والإفصاح ليس لهما علاقة نهائياً بما بعد الحداثة وإنما هي مفاهيم حداثية. أما مفاهيم أو مصطلحات ما بعد الحداثة التي أتت لتقضي على الحداثة فهي مثل: الغموض وضياع الجوهر وغير الحاسم والتشظي وزعزعة العقل.... ونذكر كيف قيّم بارت الفكرة التي كانت سائدة في فرنسا عن وضوح اللغة الفرنسية. وأكثر من ذلك، يعرف من يقرأ دريدا وبارت وفوكو... باللغة الفرنسية مقدار الصعوبة في تحديد ما يريدون قوله والخروج من الغموض الذي يسيطر على أساليبهم. ثالثاً حكى الغذامي حكاية الحداثة وقدم كتابه "الخطيئة والتكفير" على أنه كان المنعطف في تاريخ الحركة وفي أبعادها حكاية الحداثة ص 176 في الثمانينات. لكن ما يلفت إنتباهي هنا هو أن غالبية المصطلحات التي استخدمها الغذامي في تلك الفترة ونثرها في كتابه الخطيئة والتكفير مثل: لا نهائية القراءة، نقض التمركز المنطقي، التشتيت، الاختلاف... ليست لها علاقة بالحداثة وإنما هي مصطلحات ما بعد الحداثة كما يعرف الجميع. الدكتور الغذامي يقدم لنا مفاهيم الحداثة الكشف والإفصاح على أنها مفاهيم ما بعد الحداثة وقبل ذلك قدم مفاهيم ما بعد الحداثة الاختلاف والتشتت.... أثناء تزعمه لموجة الحداثة في الثمانينات. هل كان الدكتور الغذامي يدافع عن الحداثة في الثمانينات مستخدماً مصطلحات تنقضها من أساسها؟ فحل الفحول كتب الغذامي كتابة المعروف النقد الثقافي وتحدث فيه عن فحل الفحول في الثقافة العربية قاصداً بذلك الشخصية المتفردة ذات الأنا المتضخمة النافية للآخر وهي شخصية تسربت من الخطاب الشعري إلى بقية الخطابات كما يقول انظر النقد الثقافي ص 94. سأهتم هنا بربط فكرتين وردتا في كتابه "حكاية الحداثة". الأولى تدور حول أحكامه على مثقفين مثل سعيد السريحي وهو كما قدمه، "نفعي تصوراته محكومة بالفردية"، والبازعي "رجعي يخاف التفاعل الثقافي"، ومحمد رضا نصر الله والشباب معه يتصيدون الأخطاء... الثانية نجدها في لقاء ملحق "ثقافة اليوم" معه الرياض 21/12/1424 ه العدد 13016 حيث يقول: "بعد حرب الخليج الثانية تغيّر الخطاب الثقافي كله ولم يعد سؤال الحداثة مطروحاً على مستوى الخصومات والرفض واستقر أمر الحداثة". ويقول في كتابه باستقرار الحداثة وعدم قابلية انتهائها كما رأينا وانظر ص 284 وما بعدها. الرموز الثقافية التي يسميها حداثية كلها أخطاء ومع ذلك استقر أمر الحداثة لدرجة الوصول إلى مشارف ما بعد الحداثة. والسؤال: من أسس الحداثة وأقّر أمرها إذاً؟ كتاب الغذامي يقول أنه فعل ذلك وحده. ما نفهمه من كتاب الغذامي أنه الفاعل الوحيد، البطل الواقف في وجه السيل الجارف من النقد والمؤامرات من الخصوم وخيبات الأمل في الأصدقاء. نحن أمام شخصية متمركزة حول ذاتها Egocentrique بطريقة مرعبة لدرجة أنها لا تحكي لنا حكاية من ضمن حكايات بل تحكي الحكاية، والآخرون يقدمون تحت بند: من اتفق معي فهو صادق صدوق خارج النسق، ومن خالفني ففيه خطأ ويتصرف بتأثير من النسق. السنا هنا أمام شخصية فحل الفحول؟ هل تريدون معرفة كيف تشعرن الغذامي؟ حسناً. يقول الشاعر عبدالله الصيخان إنه عندما كان محرراً متعاوناً مع مجلة "اليمامة" كان الغذامي يراسل صحيفة الرياض، لنشر قصائده، بمعنى انه كان يطرح نفسه كشاعر الوطن السعودية العدد 1251 في 3 آذار/ مارس 2004... هل نفهم من هذا أن شخصية الفحل تسربت من قصائد الغذامي الشاعر لترتكز في خطابه النقدي وحكاياته من دون أن يدري؟ * كاتب سعودي.