اقتضت المنفعة السياسية والبراغماتية الاميركية التي دمرتنا ان يوقع الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش قانوناً لم يمض على صدوره في الكونغرس سوى بضعة ايام، يقضي بأن تتولى الولاياتالمتحدة مراقبة الاقوال والافعال التي تعادي اليهود في اي مكان في العالم، وبناء عليه فإن الخارجية الاميركية ستجد نفسها تقوم من الآن فصاعداً بدور يخص مواطني عشرات الدول، بعضهم يقدمون ولاءهم لأوطانهم على ولائهم لاسرائيل، والبعض الآخر لا يفصل بين يهوديته واسرائيليته. اميركا لن تتحمل عبئاً مستقلاً بل مكملاً لجهود اسرائيل ومنظمات الضغط الاسرائيلية، ولما كانت تقوم به الدول الاخرى والاوروبية منها بالذات التي تزايدت عليها ضغوط اسرائيل واميركا وجماعات الضغط الاسرائيلي لمراقبة انشطة معاداة السامية التي ستشعر ان هناك سيفاً اميركياً مصلتاً على رقابها يفرض عليها الاجوبة على اسئلة اميركية بخصوص معاداة السامية على اراضيها، او القيام بأعمال وسياسات مضادة لمعاداة السامية قد تقتضي الرضوخ للقبول بالتدخل في شؤونها الداخلية كما هي الحال في موضوع التحقيقات مع"الارهابيين"واتباع سياسة اميركية بحتة لمصلحة طائفة من سكانها لا تربطهم علاقة مواطنة بالولاياتالمتحدة والتغاضي عن عداء آخر لساميين آخرين كالعرب الذين يتعرضون، بحسب تقارير محايدة لصنوف شتى من الاعتداءات من جانب اليهود والعنصريين، وقد تجد دولة اوروبية نفسها مضطرة لان تشرك فريقاً اميركياً في التحقيق بشأن ادعاء كاذب ليهودي او يهودية حول اضطهاد او حادث وقع، ثم يثبت، كما ثبت مرتين في فرنسا من قبل، بأن هذا الادعاء الكاذب كان الهدف منه النيل من الطرف الآخر في المعادلة السامية الذي ليس هو بالقوة الكافية في اميركا لتحميه اميركا بقانون مماثل. قانون بوش فرضته عدة عوامل منها ما يتصل بالانتخابات واستنفاد المرشحين الجمهوري بوش والديموقراطي جون كيري كل اساليب التزلّف والخنوع للوبي الاسرائيلي كتأييد انشاء جدار العار العنصري ويهودية دولة اسرائيل والاحتفاظ بمستوطنات في الضفة وقداسة الامن الاسرائيلي وتأييد تفوقها العسكري وانكار حق اللاجئين في العودة وسياساتها التي تسمى في اوروبا تلطفاً وتنعماً بالاستخدام المفرط للقوة، وفي غمرة خوف بوش من تفوق منافسه الديموقراطي كيري، وما نشر عن ان الغالبية اليهودية تؤيد كيري برغم ان اسرائيل تود استمرار بوش الذي سجل رقماً قياسياً في الاستجابة لمطالبها وفي تأييد سياساتها وتفوق على الارقام القياسية السابقة للرؤساء كلينتون وريغان وغيرهما، لم يجد بوش غير الاستجابة لحملة السناتور اليهودي الصهيوني توم لانتوس الذي لا يرى ابعد من انفه ويتجاهل ما يعانيه عرب اميركا ومسلموها منذ 11/9 من اضطهاد وتمييز على ايدي مواطنيه وفي وطنهم، لأن مصلحة اسرائيل تسبق وتبز مصالح مواطنيه اتباع الديانة الاسلامية. من ناحية اخرى يريد بوش ان يدخل التاريخين الاميركي والاسرائيلي من باب اوسع من ذلك الذي دخله سابقوه كلينتون وريغان لأنه يؤيد تصفية القضية الفلسطينية تحت عنوان جذاب هو اقامة دولتين تتعايشان بسلام وفق خريطة الطريق على رغم تكراره القول انه اول رئيس اميركي يؤيد قيام دولة فلسطينية. ان بوش لا يريد بذلك سحب تأييد يهود اميركا من جون كيري بل الاستحواذ بالكامل ايضاً على اصوات اليمين المسيحي الصهيوني في الانتخابات والذي يؤيد بالمطلق ما تقوم به اسرائيل في ارض المسيح عليه السلام، ولم يعلن حتى عن استنكاره لمعاناة مسيحيي فلسطينالمحتلة وحصار الجيش الاسرائيلي لكنيسة المهد ناهيكم عن معاناة جميع الفلسطينيين. هذا القانون جزء لا يتجزأ من سياسة اميركا الاحادية التي تستهين بسيادات الدول الاخرى وتريد من خلال قوانين تسنها وتتجاوز تطبيقاتها الاراضي الاميركية اضعاف الدول الاخرى والهيمنة على شؤونها بالتدريج. انه ارهاب خطير النتائج وحرب ضد الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان يضع اليهود فوق النقد ويمنح دولتهم حق اضطهاد وقمع الغير واحتلاله وهم في مأمن لأن انتقادهم يعد معاداة للسامية. فاليهود لن يعامَلوا كبشر يخطئون ويصيبون ومن حق الغير ما داموا بشراً ان ينتقدوهم ويتظاهروا ضد سياسات الدولة اليهودية او المنظمات الصهيونية واللوبي الاسرائيلي. والاقليات الاخرى التي تعاني من التمييز ستحسد الاقليات اليهودية على هذا الاهتمام الاميركي غير المسبوق. وفي الولاياتالمتحدة سيتساءل مسلمو اميركا وعربها، ألسنا أولى بالحماية في وطننا من مواطني دول اخرى، بسبب ما نتعرض له من تمييز وسوء معاملة وشكوك واتهامات خصوصاً بعد 11/9. ألم تسمع ادارة بوش بالاسلاموفوبيا ومعاداة الاسلام AntiIslamism كما سمع بعبارة معاداة السامية، ولماذا اليهود وحدهم، وهل يترجم بوش انتماءه لليمين المسيحي الصهيوني بإصدار هذا القانون الذي يعني ان اليهود شعب الله السامي المختار، أليس العرب ساميين وبعضهم يقتل ويضطهد يومياً في عقر داره من قبل اسرائيل بأسلحة اميركية؟ وهل يستطيع بوش وادارته وضع حد فاصل او خط احمر يميز بين ما هو يهودي واسرائيلي. وهل يعي ان اسرائيل منذ الانتفاضة ترى ان انتقاد سياساتها العسكرية في الاراضي المحتلة معاداة للسامية، ثم أليس الأجدر بالدولة حامية الحريات والديموقراطية وحقوق الانسان ان تقف الى جانب الشعب الذي تحتل ارضه وتدمر منازل سكانه ويعيش معظم مواطنيه حالة لجوء منذ اكثر من نصف قرن؟ لا عجب اذا كان من وقع هذا القانون هو الذي دمّر بلداً آخر وغزاها في حرب غير شرعية من أجل ان تكون اسرائيل الدولة النووية الوحيدة في المنطقة ذات الامن المطلق، ومن أجل ان يبقى في السلطة لاربعة اعوام اخرى وتستأثر بلاده بثرواتها وتسيطر على موقعها الاستراتيجي الفريد. ان هذا القانون يبعث القلق في العالم كله خصوصاً الدول التي ترى ان شؤون مواطنيها اليهود، الطيبة منها والسيئة، من اختصاصها وحدها وشأناً من شؤونها الداخلية. ان اميركا تمنح لنفسها حقاً يتجاوز وينتهك سيادة الدول، وللمرة الاولى في التاريخ تشرع دولة قانوناً ليس لحماية مواطنيها بل لحماية فئة بعينها من مواطني دول اخرى. ان معاداة السامية هي الصناعة الاستراتيجية الثانية في الفكر الصهيوني بعد الهولوكوست. وتحت غطاء الصناعتين تنتقل اسرائيل من الدفاع الى الهجوم مؤيدة بالولاياتالمتحدة الاميركية، فهي مثلاً تستطيع دفع الولاياتالمتحدة خطوة اخرى لاصدار قرار من الاممالمتحدة وبخاصة مجلس الامن يحاكي القانون الاميركي ليصبح التشريع الاميركي تشريعاً او قانوناً دولياً تنفرد بالانتفاع به اقلية صغيرة في العالم تقل ملايينه عن اصابع اليد الواحدة اذا حسبنا ان يهود اسرائيل ويهود اميركا خارج دائرة العداء للسامية لانتمائهم لقوة عالمية عظمى وحيدة وقوة اقليمية عدوانية وحيدة ايضاً، وتستطيع اسرائيل واميركا بناء على هذا القانون ان تضغطا على اوروبا لمنع الهجرة العربية والاسلامية الى اراضيها لان هذه الهجرة طبقاً لمنطق اسرائيل التي عبرت عنه مرات ومرات هي التي تزيد من العداء للسامية وليس سياسات اسرائيل العدوانية العسكرية. اسرائيل تعي تنامي قوة هذه الجالية السياسية والاقتصادية ايضاً، وهي لا تريد لأي اقلية اخرى ان تكون قوة ضغط انتخابية تنافس الجاليات اليهودية واللوبي الاسرائيلي في اوروبا واميركا لأن هذه القوة الانتخابية الصاعدة ستبطل شيئاً فشيئاً مفعول التفرد والهيمنة اليهودية الاسرائيلية في الساحة الاوروبية لمصلحة قضية فلسطين وغيرها من القضايا الانسانية والسياسية والاقتصادية العادلة. ومن الامور التي تحتاج الى اجابة اميركية هي ماذا سيكون عليه موقف الادارة الاميركية من اليهود الذي ينتقدون اسرائيل ويطالبون بفرض عقوبات عليها لتنسحب من الاراضي المحتلة او يختلفون مع غلاة الصهيونية ودعاة التوسع وانكار حقوق شعب فلسطين. هل ستعتبرهم مثل اسرائيل يهوداً يكرهون انفسهم؟ ام ستعتبرهم ساميين معادين للسامية؟ وكيف ستحل ورطتها هذه مع الدول التي تسمح قوانينها بحرية التعبير لهؤلاء اليهود شأنهم شأن بقية مواطنيها. ان هذا القانون يرهب حتى اليهود غير التوسعيين الذين يتطلعون الى انهاء الصراع الفلسطيني الاسرائيلي بانشاء دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 وقد يرهب بريطانيا الفخورة بشكسبير مؤلف تاجر البندقية ويجبرها على وضعه في قائمة اعداء السامية. ان هذا القانون اكد من جديد ان كل ما هو مصلحة اسرائيلية هو مصلحة اميركية والعكس صحيح وان دولة العدوان والاحتلال في فلسطين والمنطقة العربية تؤيد من قبل الدولة التي كان البعض يتفاءل بأن احداث 11/9 ستعيدها الى جادة الصواب وتنأى بنفسها عن التأييد الاعمى لاسرائيل والكيل بمكيالين. ان اميركا بهذا القانون قد قبلت احتكار اسرائيل لأمرين: احتكار المعاناة البشرية واختزالها في الهولوكوست واحتكار الاضطهاد وحصره في معاداة السامية. واي معاناة بشرية لا اهمية ولا قيمة لها الا عندما يصبح لها قيمة انتخابية في الولاياتالمتحدة. * رئيس بعثة الجامعة العربية في المملكة المتحدة.