كثر يعتبرونه قبلة السينما المستقلة في العالم، لكن آخرين يعتبرونه تكريساً لهيمنة الاستوديوات الكبرى على السينما المستقلة في أميركا ! انه مهرجان صندانس الدولي للفيلم الذي أقيمت دورته الأخيرة قبل أسابيع في مدينة بارك سيتي في ولاية يوتا الأميركية. تعود شهرة مهرجان صندانس العريضة الى أسباب عدة. أهمها أنه قدم على مدى دوراته السابقة العديد من المواهب السينمائية الفذة مثل ستيفن سودربرغ وكوانتين تارنتينو. كما ان رئيسه ومؤسسه روبرت ريدفورد كان من أشد المتحمسين للسينما المستقلة وواجه العديد من العقبات وتغلب عليها بنجاح على مدى دوراته العشرين. وعلى رغم أنه مهرجان دولي إلا أنه ما زال يحتفظ بصبغته الأميركية التي تمثل النسبة الكبرى من الأفلام المعروضة وبخاصة في مسابقاته الرسمية. افتتاح المهرجان: أول وثان شهد المهرجان لأول مرة عرض فيلم تسجيلي في الافتتاح هو "ركوب العمالقة" للمخرج ستاسي برالتا وهو عن عالم ركوب الأمواج والتزحلق فوق المياه من خلال شخصيات عدة من المغامرين الذين يمارسون هذه الرياضة الخطرة والمثيرة في آن وحكاياتهم عنها. والفيلم صوّر بالكاميرا الديجيتال. وكان هذا العرض بمثابة العرض العالمي الأول للفيلم. وقبل عرض الفيلم ألقى ريدفورد كلمة رحب فيها بالحضور مؤكداً انه لولا حضورهم "لما أقيم المهرجان"، وأضاف: "لقد قيل من البداية ان المهرجان لن ينجح وأن الناس لن تأتي لأنه مهرجان غير تجاري، أوضحت لهم انني أعتقد أن شيئاً جديداً سيحدث لو وضعنا برنامجنا على أساس التنوع، وليس على أساس تجاري. الآن أعتقد ان المنجزات التي حققها هذا المهرجان عاماً بعد عام تشير الى أن التنوع جعل هذا المهرجان ينجح تجارياً، وأتمنى أن تشاركوني الإعجاب بسخرية المفارقة من ذلك". وشهد اليوم التالي افتتاحاً ثانياً للمهرجان في سولت لاك سيتي، وهو تقليد يحدث لأول مرة أيضاً. وعرض في هذا الافتتاح الثاني الفيلم الروائي الأميركي "حافة أميركا" للمخرج كريس إيري. هو أيضاً العرض العالمي الأول للفيلم الذي صوّر بالديجيتال. والفيلم تحية لمواطني أميركا الأصليين الذين ينتمي اليهم مخرج الفيلم. وتعتبر فكرة العرض العالمي الأول من الظواهر المرتبطة بصندانس الذي يحرص كل عام على جذب أكبر عدد من الأفلام المهمة التي لم تعرض بعد في أي مهرجان وعرضها في تظاهرة خاصة. بل ان بعضها ما زال في مراحله النهائية مثل الفيلم الأميركي "الوضوح" لبيتر جان بيرغ. ومن الأفلام التي عرضت في هذه التظاهرة أيضاً هذا العام الفيلم الإيطالي "الحالمون" لبرناردو برتولوتشي، والاسباني "الميكانيكي" لبراد أندرسون، والانكليزي "تروما" لمارك إيفانس، والكوري "السماء الزرقاء" لمون سانغ كيم. وكذلك عدد كبير من الأفلام الأميركية منها "لا تمت وحدك" لإرنست ديكرسون، "تأبين" لمايكل كلانسي و"افتداء" لفوندي كيرتس هول. أما قسم عروض خاصة فشهد عرض عدد من الأفلام المهمة منها "دوغفيل" للارس فون ترير الذي فاتته السعفة الذهب في مهرجان كان الماضي، ولفون ترير فيلم آخر تسجيلي بالاشتراك مع جورجين ليث، وهو من آباء السينما التسجيلية في الدنمارك والفيلم يحمل اسم "الحواجز الخمسة". ويعرض في البرنامج نفسه أيضاً الفيلم التسجيلي "اصطياد الرئيس" الذي يتناول 10 سنوات بالرصد والتحليل الرئيس الأميركي السابق كلينتون، وأيضاً الفيلم التسجيلي "المواطن كينغ" للمخرجين ارنالدو باجويل ونولند والكر الذي يحتل أهمية خاصة لمناسبة مرور 75 عاماً على ميلاد السياسي الأميركي مارتن لوثر كينغ. المخرجان يكتشفان السنوات الخمس الأخيرة في حياته معتمدين على إطار يبدأ بخطابه الشهير "لدي حلم" وانتهاء باغتياله في ممفيس. مسابقتان رسميتان أما مسابقة الأفلام الروائية الطويلة فشهدت عرض 16 فيلماً أميركياً منها: "نوفمبر" لغريغ هاريسون، "هاري وماكس" لكريستوفر مونش، و"كتاب الحب" لآلان برون. وهناك أيضاً مسابقة الأفلام التسجيلية المستقلة التي ضمت 16 فيلماً أميركياً أيضاً منها "منزل الشجاعة" لباولا دي فلوري، و"تنقيب" لأوندي تيمنور الذي يتتبع على مدى سبع سنوات قضاها المخرج مع اثنين من الموسيقيين الشباب رصداً لصداقتهما ورحلة صعودهما معرجاً على الجوانب الانسانية وكذلك الجوانب المهنية لمحترفي الموسيقى. وحصل الفيلم على جائزة لجنة التحكيم الكبرى. إضافة الى "مولود في بروسلز". ومن العروض فيلم "أطفال الضوء الأحمر في كلكتا" للمخرجين روس كوفمان وزانا بريسكي. وهو يتناول حياة الأطفال في حي سونجاشي في كلكتا حيث يعمل الأطفال في الدعارة ويعيشون حياة قاسية. يسجل الفيلم التحول في حياة هؤلاء الأطفال حينما يقوم أحد المخرجين وهو المصور المحترف بريسكي بتعليمهم التصوير، وإمدادهم بالكاميرات، وتعبر الصور التي التقطها الأطفال عن نظرتهم الى العالم، وفي الوقت نفسه يحررهم الفن ويمنحهم قوة دافعة للشفاء الاجتماعي، الفيلم فاز بجائزة الجمهور لأفضل فيلم تسجيلي، أما جائزة الجمهور لأفضل فيلم روائي فذهبت الى فيلم "ماريا تفيض بالإحسان" سيناريو وإخراج جوشوا مرستون. ولعل من أهم النشاطات المصاحبة لمهرجان صندانس هو مركز الديجيتال الذي يقع في الشارع الرئيسي الذي تنتشر فيه قاعات عروض المهرجان وكذلك المقاهي والمطاعم التي يلتقي فيها السينمائيون، ونشاطه لا يقتصر فقط على عرض أفلام المهرجان على الانترنت من خلال عشرات أجهزة الكومبيوتر الموجودة في المركز، بل هناك عرض من كبريات الشركات لأحدث تقنيات الديجيتال سواء كانت كاميرات أم أجهزة مونتاج سوفت واير/ هارد واير. كما أن هذه الشركات تنظم بشكل مستمر ورش عمل للسينمائيين الشبان للتدرب على هذه الأجهزة خلال أيام المهرجان، ومن يرغب في ذلك عليه فقط تسجيل اسمه. وأيضاً هناك الندوات التي ينظمها المركز مثل الندوة التي أقيمت في اليوم الثاني حول الخيارات التي يواجهها صانعي الأفلام في اختياراتهم للمقاس ونوع الكاميرا الملائم. وصرح إيان كيلدرون مدير المركز بأنه يتوقع زيادة عدد الزائرين من 1600 زائر في العام الماضي الى 3000 زائر يومياً هذا العام. المرأة... كان مستغرباً أن نجد في مهرجان سينمائي أميركي كبير ندوة تحمل عنوان "المرأة في صناعة الأفلام". هذه الندوة التي اصطف على منصتها عدد كبير من صانعات الأفلام ومديرات الأقسام في عدد من الشركات والمحطات التلفزيونية. مرجع الدهشة ربما يعود الى تخلف الإحساس بالتمييز غير المتوقع على رغم اعتيادنا على مثل هذا النوع من الندوات التي تتناول سينما المرأة في بلادنا. الأغرب أن الطرح في هذه الندوة بدا مفتعلاً من الوهلة الأولى، وتركز على تجارب الحاضرات الشخصية التي تخلو من التمييز الواضح، بل ان اكثر المشكلات التي تواجههن هي المشكلات نفسها التي تواجه المخرجين الذكور كأن تسوق روبي ريتش استاذة نظرية الفيلم وتاريخ السينما في جامعة بريكلي مثالاً على سيادة تقاليد المهن في العصور الوسطى حتى اليوم داخل صناعة السينما الأميركية حيث يأتي الأب بأبنائه والعم بأولاد عمومته. ولكن كلام السيدة ريتش يمكن تفنيده على رغم ان المجال لا يتسع لمناقشة هذه الظاهرة في سطور قليلة، إلا أنها ظاهرة قد تنعكس سلباً على الذكور والإناث على حد سواء. فهناك أيضاً مخرجات ينتمين الى عائلات فنية مثل صوفيا كوبولا، وإن كان هذا تعميم مغلوط لأن بعض هؤلاء الأبناء/ البنات يتمتعن بالموهبة بالفعل. أما مود نادلر المشرفة على تطوير المشروعات في قناة "أتش بي أوه" التلفزيونية فقالت ان منذ سنوات حينما يتقدم مخرج ومخرجة واعدان للعمل الى أحد الاستوديوات، فإن المخرج الذكر هو الذي تسند اليه مهمة إخراج أفلام هوليوود الكبرى. بينما المخرجة لا يحدث معها الشيء نفسه. أليست هناك سيدات يردن اخراج أفلام كبيرة في هوليوود؟.... وعلى رغم ان كلمات نادلر لا تخلو من الصحة إلا أن الآراء اللاحقة كانت بمثابة تفنيد لها.