تبدو مشاورات خبراء الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي حول مستقبل الاصلاحات في المنطقة العربية الاسلامية قد بلغت مرحلة من النضح تمكّن الجانبين من التحدث بلغة مشتركة حيال دول الجنوب. وتبدو الأخيرة في مثابة الرجل المريض الذي تنكب عليه الدول الغربية لمعالجته كانكبابها في بداية القرن الماضي على وضع الامبراطورية العثمانية. وهناك اختلاف مهم بين وضع الرجل المريض في بداية القرن العشرين ووضعه في بداية القرن الواحد والعشرين. فالامبراطورية كانت واسعة ومنهكة فتم تقسيمها. أما الرجل العربي المريض اليوم فهو جسم صغير ممزق لا يقوى حتى على الدفاع عن أكباده. وبازائه، يتفق الأوروبيون والأميركيون حول ضرورة استعجال الاصلاحات السياسية والاقتصادية، لأن غيابها يظل أحد اسباب انعدام الاستقرار السياسي. وقد اقتنع الجانب الأميركي أيضاً بطروحات الاتحاد الأوروبي ومواقف البلدان العربية بأن يكون منطلق الاصلاح من داخل مجتمعات المنطقة. وكدليل على إصغائها الى الدعوات الخارجية واحتمالات تحولها إلى مطلب عالمي من أجل الاصلاح، لم تتأخر الحكومات العربية، وفي مقدمها مصر، في ارتجال وثائق الاصلاح وصوغ بيانات سيعلنها القادة العرب خلال اجتماع القمة، نهاية الشهر الجاري في تونس، يؤكدون فيها وجود إدراة عربية داخلية للاصلاح من دون حاجة الى تدخل خارجي. دعم منطلق الاصلاح من الداخل وأثمرت المشاورات الجارية على مدى الأسابيع بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي عن ادراك الخبراء الأميركيين خطر أن يؤدي الضغط الخارجي على المنطقة العربية إلى نتائج عكسية في حال صيغت المبادرات في شكل إملاءات خارجية. وتوقف نائب وزير الخارجية الأميركي على هذا الاحساس عندما زار كلاً من المغرب ومصر والأردن والبحرين في مطلع هذا الشهر. وقال مارك غروسمان خلال توقفه في بروكسيل، وبعد لقائه كلاً من مجلس سفراء دول حلف شمال الأطلسي ومجلس سفراء بلدان الاتحاد الأوروبي، إن "أفضل أفكار الاصلاح هي تلك النابعة من المنطقة". وفاجأ مارك غروسمان المراقبين الأوروبيين بأسلوبه البراغماتي وانسجام رأيه مع طروحات الجانب الأوروبي حول الحذر من عواقب الضغط الشديد على البلدان العربية. لكن إقرار الديبلوماسي الأميركي بأهمية انطلاق فكرة الاصلاح من صلب المجتمعات العربية والاسلامية ليس مناورة يراد منها ذر الرماد في العيون بقدر ما هو تفهم من الجانب الأميركي بضرورة إمهال الحكومات العربية بعض الوقت لتنفيذ أدنى الاصلاحات السياسية الكفيلة بتنفيس الاحتقان الداخلي. وقال ديبلوماسي اوروبي مطلّع على المشاورات بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي حول مستقبل الديموقراطية في المنطقة العربية، إن "الادارة الأميركية تصر على دفع الاصلاحات في المنطقة خصوصاً إذا فاز الرئيس بوش بولاية ثانية". ونقل المصدر نفسه عن الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا الذي كان أجرى مشاورات كثيرة مع وزراء خارجية البلدان العربية مطلع هذا الشهر في القاهرة "وجود تحفظات كبيرة من جانب البلدان العربية وفي شكل خاص من جانب المملكة العربية السعودية حيال المبادرات الخارجية". وتوصلت الولاياتالمتحدة إلى قناعة بضرورة تغيير الأوضاع السياسية في المنطقة العربية بعدما طاولتها آثار التشدد داخل بعض المجتمعات العربية واحتقان الأوضاع السياسية والاجتماعية بفعل الانحياز الأميركي المطلق الى إسرائيل ودعمها حكومات عربية عنيدة في قبول قواعد التوالي على السلطة. التخلي عن مفهوم هلسنكي وتقر الولاياتالمتحدة من جهة ثانية بجدوى النصيحة التي قدمها الخبراء الأوروبيون، منذ إطلاق مبادرة الرئيس بوش حول الشرق الأوسط الكبير، من أجل الأخذ في الاعتبار فوارق النمو وتعدد التجارب التاريخية وتنوعها ومراحل النضج السياسي لكل من دول المنطقة. وكان أصل المبادرة الأميركية يشير إلى الشرق الأوسط الكبير من موريتانيا - الافريقية العربية - إلى افغانستان الاسلامية المتعددة القوميات. واقترحت الولاياتالمتحدة في بداية النقاشات مع الجانب الأوروبي وضع هيكلة اقليمية تشبه منظمة الأمن والتعاون الأوروبي التي جمعت بلدان المعسكرين الشيوعي والغربي، خلال عقود الحرب الباردة، حول مسائل حقوق الانسان وتخفيف التوتر بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي. ويبدو أن الولاياتالمتحدة عدلت عن انموذج اتفاقية هلسنكي بعد تدخل الأوروبيين وشرحهم تنوع طبيعة انظمة المنطقة وانعدام وجود جدار يفصل بين بعضها بعضاً باستثناء بعض النزاعات التي لا ترقى الى مستوى الحرب الباردة. وتستثني هذه النظرة مشكلة النزاع العربي - الاسرائيلي. وأكد نائب وزير الخارجية الأميركي مارك غروسمان في نهاية جولته الأخيرة على البلدان العربية الأربعة المرشحة لاستيعاب خطة "الشرق الأوسط الكبير" اعتراف الولاياتالمتحدة ب"الاختلافات التي تميز بلدان المنطقة وحاجة كل منها إلى سير الاصلاحات بوتيرة تناسب شعوبها". وعنى كلام الديبلوماسي الأميركي فهمه المواقف التي كان سمعها خلال جولته الأخيرة على البلدان العربية الأربعة المرشحة لتنفيذ خطة الرئيس بوش. وترفض وجهات النظر العربية الرسمية سيناريو تبدو فيه الولاياتالمتحدة مدرّساً يعلم التلاميذ حسن السلوك. وقال الرئيس حسني مبارك في حديث نشرته صحيفة فرنسية في التاسع من الشهر الجاري بوجوب احترام "حق كل من دول المنطقة في ان تقول كلمتها وأن تكون في صلب المشروع الاصلاحي الذي يعنيها". ويرد الرئيس مبارك على الفكرة الأميركية لتعويم المنطقة العربية الاسلامية بمفهوم مشترك يجمع بين بلدان ذات أوضاع سياسية وتجارب مختلفة، على غرار ما يعنيه مفهوم "الشرق الأوسط الكبير". غياب السلام ليس مبرراً للجمود إلا أن الوفاق الأميركي - الأوروبي حول الاصلاح لا يطاول بعد المشكلة الجوهرية التي تعد أحد أسباب الجمود وانعدام الاصلاح في المنطقة. فبينما يعتقد الاتحاد الأوروبي والبلدان العربية في أولوية حل النزاع العربي - الاسرائيلي، لأنه يرهص عمليات الاصلاح والتنمية، فإن الولاياتالمتحدة حاولت في بداية نقاشات الاصلاح تسويق فكرة مفادها أن الديموقراطية تقود الى السلام مثلما قاد انفتاح الأنظمة الشيوعية على مؤسسات المجتمع المدني إلى سقوطها الأنظمة. لكن الطرح الأميركي تغير إلى حد ما بفعل تأثير النقاشات الجارية مع الاتحاد الأوروبي من ناحية والبلدان العربية من ناحية أخرى. ويقر مارك غروسمان بأهمية الحل السلمي للنزاع العربي - الاسرائيلي، مؤكداً خلال توقفه يوم الجمعة 5 آذار مارس الجاري في بروكسيل، أن دعوات الاصلاح والديموقراطية في المنطقة "ليست بديلاً عن اهتمام الولاياتالمتحده بتقدم عملية السلام". إلا ان تأخر الحل السلمي لا يعد مبرراً لتأجيل عمليات الاصلاح. وقال غروسمان: "لا يمكن تأجيل الاصلاحات الى حين إحلال السلام الكامل. فالاصلاح ليس بديلاً عن الحل السلمي، ولكن يجب ألاّ يكون غياب الحل السلمي مبرراً للجمود". وهنا يبدو المسؤول الأميركي محقاً ومقنعاً لأكثر من طرف في الاتحاد الأوروبي وفي المنطقة العربية. وتقول كريستينا غالاك المتحدثة باسم الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي بوجوب ألاّ يكون النزاع مع اسرائيل مبرراً لتعطيل الاصلاح. ونقلت عن خافيير سولانا القول بأهمية "ان تكون مسارات الاصلاح ومفاوضات السلام متوازية. فيدفع كلاها الآخر". ولا شك في أن كلفة النزاع العربي - الاسرائيلي تحد من قدرات النمو، لأنها تحول جزءاً من موارد التنمية إلى أغراض التسلح والتعبئة الأمنية. لكن علاقات النزاع مع اسرائيل لا تفسر بمفردها جمود الوضع السياسي وبطء الاصلاحات السياسية والاجتماعية في بلدان المشرق العربي وفي منطقة دول الخليج العربية. واذا كان جمود وضع بعض البلدان المشرقية يفسر بمخاطر المواجهة مع اسرائيل، فكيف يفسر الجمود في البلدان التي أقامت سلاماً معها ولم تتمكن من إفراز البديل السياسي الذي تحتاج اليه في مثل هذه الظروف الجارية؟ وكيف يفسر جمود الوضع في بلدان شمال افريقيا البعيدة من خطوط النزاع مع الدولة العبرية وبعضها وجد ذريعته في "مقاومة الاصولية والتطرف الديني" لتبرير قمع المعارضة الدينية وغير الدينية وإلجام أصوات المجتمع المدني. الاختلاف الأميركي - الأوروبي ويختلف الأميركيون والأوروبيون الى حد الآن حول الآليات الخارجية التي ستدعم الاصلاح في المنطقة العربية. فبينما تميل الادارة الأميركية الى استحداث آليات جديدة تابعة لمجموعة البلدان الغنية الثمانية تكلف لاحقاً بتمويل نشاطات المجتمع المدني ودعم برامج التعليم وانعتاق المرأة... فإن الاتحاد الأوروبي يبرز تراكم تجارب التعاون مع البلدان العربية المجاورة وآخرها تجربة مسيرة الشراكة الأوروبية المتوسطية التي رصدت لفائدتها عشرات البلايين منذ منتصف التسعينات. وتقول كريستينا غلاك المتحدثة الرسمية باسم الممثل الأعلى للاتحاد خافيير سولانا إن الحديث يتعلق ب"جيراننا وشركائنا". فالاتحاد الأوروبي يعد أول وأكبر شريك بالنسبة الى غالبية البلدان العربية. بعضها يعتمد في شكل شبه مطلق على السوق الأوروبية للتزود والتصدير وجلب السياح والاستثمارات. ولاحظ خافيير سولانا خلال وجوده مطلع هذا الشهر في القاهرة ان بلدان المنطقة تبحث بدورها عن تعميق التعاون مع الاتحاد الأوروبي على أساس الهياكل القائمة والمتمثلة في خطة الشراكة الأوروبية المتوسطية وشبكة الاتفاقات التي تربط كلاً من البلدان العربية المتوسطية والاتحاد الأوروبي. وينفق الاتحاد الأوروبي والبلدان الأعضاء ما قيمته 3 بلايين دولار لمساعدة بلدان المنطقة على تجاوز مرحلة الاصلاحات الاقتصادية والسير نحو هدف قيام منطقة التبادل التجاري الحر المقرر في 2010، وفي ردها على خطة الشرق الأوسط الكبير ولتأكيد العلاقات الحيوية التي تربطها بالدول العربية المجاورة، عرضت غالبية البلدان الأوروبية، وفي مقدمها فرنسا والمانيا، مجموعة أفكار تقوم ايرلندا، الرئيسة الحالية للاتحاد، بدراستها وقد تقدمها بمثابة رد اوروبي على الخطة الأميركية، عندما يجتمع القادة الأوروبيون يومي 25 و26 آذار الجاري 2004 في بروكسيل. وفي نطاق دعم الحوار بين ممثلي الرأي العام، ينتظر ان يتم افتتاح الجمعية البرلمانية الأوروبية المتوسطية في شهر نيسان ابريل المقبل في اثينا. وبالنظر الى النقاشات الجارية، فإن قضية الاصلاح والديموقراطية ودور الأطراف الخارجية في دفعها ستكون المحور الرئيس في اجتماعات النواب الأوروبيين والعرب المتوسطيين في أثينا. كما لا يهمل الاتحاد منطقة الخليج العربية حتى وإن كان المسؤولون يعترفون بمحدودية تأثير الاتحاد في منطقة الخليج وسيطرة الولاياتالمتحدة ودورها الريادي في إدارة الأوضاع الأمنية الاقليمية. ويفترض أن يتوصل خبراء مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي في غضون الأشهر المقبلة إلى انهاء مفاوضات التبادل التجاري التي دامت أكثر من عقد. ولعل اندفاع الولاياتالمتحدة لتشجيع الاصلاحات السياسية سيكون حافزاً بالنسبة الى الجانبين الخليجي والأوروبي يدفعهما إلى حسم القضايا التجارية التي تعطل المفاوضات. لكن الأوروبيين سيعولون في نهاية الأمر على الولاياتالمتحدة لاستخدام ثقلها السياسي لدى دول الخليج العربية وفي شكل خاص في اتجاه المملكة العربية السعودية من أجل دفع عجلة الاصلاح السياسي والاجتماعي والثقافي. دور حلف شمال الأطلسي وترشح الولاياتالمتحدة حلف شمال الأطلسي للاضطلاع بدور في خطة إصلاح الشرق الأوسط الكبير. فهو يدعم قوات التحالف في العراق من خلال المساعدات التقنية والخبرات التي يقدمها لقوات بعض البلدان الأعضاء، منها بولندا والمجر وبلغاريا. وقد يتولى الحلف دوراً أكبر بعد تسلم العراقيين السيادة على بلادهم في منتصف العام الجاري. وهو بذلك سيعيد تجربته في قيادة قوات "ايساف" في افغانستان. وتمهيداً لاجتماع القمة الأطلسية في الصيف المقبل في اسطنبول، يبحث خبراء الدول الأعضاء مقترحات قدمها وزير الخارجية كولن باول من أجل رفع علاقات الجوار التي يقيمها الحلف مع ستة بلدان عربية متوسطية واسرائيل إلى مستوى الشراكة. وأوضح نائب وزير الخارجية الأميركي مارك غروسمان خلال وجوده في بروكسيل في الخامس من الشهر الجاري امكانات تطوير التعاون مع بلدان الشرق الأوسط في شكل عام في مجالات الإغاثة ومكافحة الكوارث الطبيعية وبخاصة في مجالات مكافحة تهريب الجنس البشري والمخدرات وتهريب منتجات تساهم في صنع أسلحة الدمار الشامل. وتشهد المنطقة العربية في غضون الأشهر المقبلة تقاسماً للأدوار بين الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة وحلف شمال الأطلسي. كأن يكلف الأخير الجوانب الأمنية لاستقرار منطقة الشرق الأوسط ويوفر الاتحاد وكذلك مجموعة البلدان الغنية الثمانية الموارد المالية لدعم برامج التعاون والاستثمار، فيما تتولى الولاياتالمتحدة ريادة عمليات الاصلاح السياسي وتوجيهها وفق اهداف ثقافة جديدة تروجها الوسائل والقنوات المناسبة القديمة منها والجديدة.