تنظم مكتبة الأسكندرية من اليوم، 12 إلى 14 آذار مارس الجاري مؤتمر "الإصلاح العربي" الذي يأتي مغايراً للمؤتمرات السابقة التي عقدت تحت العنوان نفسه، في صنعاء والدوحة والعقبة، فهو يطرح تساؤلات حول دور مؤسسات المجتمع المدني في الإصلاح، مفترضاً أن الإصلاح لا ينبع دائماً من السلطة السياسية الحاكمة، بل لابد من أن يكون رغبة نابعة من المجتمع ذاته، وأن يكون للمجتمع دور في صوغ طبيعة التغيير المطلوب، وليس مجرد مشاهد لما يحدث. فاعلية المجتمع المدني هي المحور الذي انطلقت منه ورقة العمل التي أعدها اسماعيل سراج الدين رئيس المؤتمر ومدير مكتبة الاسكندرية. المحور الأول في الورقة يطرح تساؤلات حول الرؤية المنقوصة في الوطن العربي للإصلاح السياسي التي تحصدها في الانتخابات والتمثيل السياسي وفاعلية الأحزاب السياسية، وكذلك دور الإعلام والعلاقة بين أجهزة الدولة المختلفة، وتفضل هذه الرؤية الكثير من الأسئلة الشائكة التي يجب مواجهتها مثل تحديد فترة الحكم والدور الصحيح للدين ومشاركة المرأة والأقليات بصورة أكبر في الحياة السياسية. وترى الورقة أنه لا يوجد حل مثالي لهذه المشكلات، ولكل دولة ظروفها الخاصة بها والحلول الجادة تتأتى من مشاركة فئات المجتمع كافة، في وضع خطوات الإصلاح الملائمة. ترى الورقة أيضاً أن الحكم الجيد يتسم بالشفافية والمسؤولية والتعددية المؤسسية كما يتسم بالمشاركة وسيادة القانون وحرية تدفق المعلومات. ولفتت الورقة الانتباه إلى أنه عند طرح دور هذا القطاع غالباً ما يغفل بحث الأطر التنظيمية التي يمكن أن تحقق ذلك في مناقشات الإصلاح. ومن الإشكاليات التي تطرحها الورقة الإطار القانوني لهيئات المجتمع المدني، فإذا شعرت هيئات هذا المجتمع بأنها غير قانونية أو أنها ستتعرض للمساءلة القانونية حين تشرع في العمل فإنها ستحد من نشاطها، بل إنها يمكن أن تخضع نفسها إلى رقابة ذاتية ما قد يضر بالدور الاجتماعي المنوط بها، وتفرق الورقة بين طبيعة عمل مؤسسات المجتمع المدني كما يلي، المؤسسات المختصة بالتنمية، المؤسسات التي تعمل على زيادة الوعي العام، المؤسسات التي تعمل في إطار الرقابة، المؤسسات التي تعمل في إطار اجتماعي، كما تطرح الورقة أمام المشاركين في المؤتمر قضايا شائكة تتعلق بالمجتمع المدني مثل حصول هيئات هذا المجتمع على الدعم المالي من جهات أجنبية، والتعاون مع منظمات غير حكومية أجنبية. غير أن الورقة لم تطرح تساؤلات أو إجابة محددة وواضحة حول قضايا تمويل مؤسسات المجتمع المدني؟ وإن كانت طرحت فقط قضية التمويل الأجنبي. إن التجربة التاريخية تؤكد أن خصوصية المجتمع المدني العربي نبعت من دعم مؤسسة الوقف له والتي نجحت عبر قرون في انعاش هذا المجتمع، بل أن التجربة الليبرالية لمصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، تؤكد أن مؤسسة الوقف حين مولت هذا المجتمع انتعش دوره، ولدينا على ذلك أمثلة مثل الجمعية الجغرافية المصرية والجمعية الخيرية الإسلامية، ودار الكتب المصرية، وكلها كان لها أوقاف أممت في الحقبة الناصرية، وبالتالي تراجع وتضاءل دور هذه المؤسسات، فهل سيطرح المؤتمر إعادة النظر في دور الأوقاف كأداة لتمويل الجمعيات والمؤسسات العلمية والرقابية الأهلية؟ وتتشعب وتتشابك القضايا في محور الإصلاح الاقتصادي في الورقة، غير أنها فرقت بدقة بين الخصوصيات المحلية وبين المشاكل الاقليمية، غير أن أكثر ما تطرحه إلحاحاً هو مشكلات التجارة البينية العربية، وكذلك كيفية تعامل الدول العربية كمنطقة اقتصادية موحدة مع التجارة الدولية. إن أكثر ما يمكن تقديمه خلال المناقشات في هذا المحور هو قضايا الحركة سواء للأفراد أو للسلع بين الدول العربية التي ما تزال تفتقر إلى الآن إلى شبكة طرق تربطها، فهل يعقل ألا يوجد إلى الآن طريق بري يربط مصر بالسودان على سبيل المثال؟ وألا يوجد قطار سريع يربط بين دول شمال افريقيا العربية؟ وإن تظل العمالة غير العربية هي الأكثر تفضيلاً في بعض الدول العربية؟ ويترابط المحور الاقتصادي مع محور السياسات الاجتماعية، وهو ما سينفرد به أيضاً هذا المؤتمر عن غيره، وما يزيد من أهمية هذا المحور هو طرحه لقضايا خمس للمناقشة، وهي عمالة الشباب لما تمثله من قنبلة موقوتة، ومهارات ضائعة غير مستغلة، الوعي النوعي وتقصد به الورقة تجاهل مهارات نصف أفراد المجتمع، وإسهاماتهم خصوصاً دور المرأة حيث ما زال هناك الكثير الذي يجب القيام به في هذا المجال، التعليم وبناء القدرات على البحث والتطوير في العلوم والتكنولوجيا، وهو أحد المتطلبات الرئيسية من أجل التعامل مع التحدي العالمي الذي يفرضه التحول نحو المجتمعات القائمة على المعرفة، وهو التحول الذي تتسارع وتيرته بفضل التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات والحاسبات. إلا أن نظم حقوق الملكية الفكرية قد تعيق الدول العربية عن اللحاق بهذا التحول، وهو ما يفرض حتمية مراجعة شاملة للنظم التعليمية، وإعادة هيكلة المؤسسات البحثية، أما القضية الرابعة فهي الخدمات الصحية والبشرية والخامسة تركز على شبكات الامان الاجتماعي، فمن الصعب التحدث عن الإصلاحات في السوق من دون التعامل مع بعض المخاوف مثل العمال المشردين والآثار المحتملة لدورات السوق على ظروف العمل والإدارة الجيدة للتأمينات الاجتماعية والمعاشات. المحور الرابع الذي تطرحه الورقة، وهو محور الإصلاح الثقافي، فالمثقفون في الحقب الماضية تحولوا إلى موظفين في مؤسسات ثقافية حكومية، وصاروا يروجون لما تراه السلطة، وهو ما أدى إلى تراجع الخطاب الإبداعي، ولذا فتحديث الخطاب الثقافي، والمؤسسات الثقافية والبحث عن آليات وسبل جديدة للانتاج والتبادل الثقافي، على أن يتزامن هذا مع حوار ثقافي جديد يقوم على المساواة والاحترام المتبادل، والتسامح بين المثقفين للتغلب على العنف المترسخ في الخطاب الثقافي الحالي. وهو ما سيطلق الطاقات الإبداعية الكامنة. إن هذا يقودنا إلى الحديث عن نجاحات المؤسسات الثقافية الخاصة العربية في تقديم دعم للحركة الثقافية العربية أنعشها مثل مؤسسات الفرقان والعويس والفيصل، وهو ما يعني إمكان أن يلعب المجتمع المدني دوراً حيوياً في إنعاش الحركة الثقافية العربية. إضافة إلى تجديد المؤسسات الثقافية العربية الحكومية وتطوير آلياتها، خصوصاً المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الالكسو التي تحتاج إلى تحرير سياساتها من قيود الاجتماعات الوزارية، فبدلاً من إقرار خططها من طريق وزراء التعليم العالي والثقافة في الوطن العربي، يجب تشكيل مجلس أمناء من كبار المثقفين العرب، كما يجب أن تلعب دوراً في دعم التعليم وتطويره ورعاية شباب المثقفين وحركة الترجمة والإبداع الفكري، والتقدم العلمي، ويمكن أن تحرره آلياً بفرض دولار على كل تذكرة طائرة لحركة الطيران في الوطن العربي، يخصص لدعمها ودعم دور الجامعة العربية الذي لم تتعرض له الورقة. هناك العديد من القضايا الشائكة، التي لم تطرحها الورقة أيضاً كقضايا الخلافات الحدودية العربية، وهل يمكن إخضاع مناطق النزاع لسيطرة الجامعة العربية؟ وبذا تحيد مناطق النزاع التي طالما فجرت حروباً أو هددت بحروب في المنطقة العربية. ورقة مؤتمر الاسكندرية الأولية، لا شك في أنها بمحاورها الأربعة ستدفع المشاركين إلى تفجير قضايا ساخنة لم يسبق مناقشتها، وستؤدي لطرح حلول غير تقليدية، ولكن أبرز ما جاء فيها هو رغبة القائمين على المؤتمر في انطلاق حركة المجتمع المدني العربي نحو الإصلاح، وفي متابعة هذه الانطلاقة، وأن يترتب على المؤتمر حركة مستديمة تدفع بهذا المجتمع نحو لعب دور أوسع وأكثر صدقية من ذي قبل.