شهدت مدينة غرناطة الاسبانية في الفترة من 4 الى 9 أيار مايو الجاري مؤتمراً مهماً عن "الإبداع الثقافي في المجتمعات العربية في نهاية القرن". نظمه معهد الدراسات عبر الاقليمية للشرق الأوسط وشمال افريقيا وآسيا الوسطى التابع لجامعة "برينستون" الاميركية والذي يموله الأمير المغربي هشام بن عبدالله بالاشتراك مع جامعة الاوتونوما بمدريد والمجلس الأعلى للبحوث العلمية باسبانيا، وشارك فيه أكثر من مئة باحث ومثقف عربي واسباني. ويقول الدكتور عبدالله حمودي عميد المعهد والمشرف على المؤتمر ان هذا المؤتمر هو الخامس في سلسلة المؤتمرات التي عقدها المعهد منذ انشائه قبل ثلاث سنوات، وكلها كانت تتناول قضايا شائكة مثل "صراع الحضارات" و"حقوق الانسان في الثقافات" و"مفهوم الممارسة في المجتمع المدني". وأشار حمودي قبيل بدء المؤتمر الى ان لقاء غرناطة يناقش بشكل أساسي العوائق التي تواجه الابداع العربي والتجديد في الثقافة العربية بمعناهما الواسع، والتعرف الى أهم ما توصل اليه المبدعون العرب من انجازات في تلك المجالات خلال النصف الثاني من القرن العشرين. افتتح الأمير هشام بن عبدالله لقاء غرناطة بكلمة أكد فيها على أهمية دور المفكر في المجتمع العربي، وأشار الى أهمية ان يناقش الحاضرون مشاكل اساسية تعترض انتقال الفكر والمجتمع العربي من التخلف الى التقدم. الا ان هذه الكلمة، على رغم انها كانت جيدة ومثيرة لمشاكل حقيقية يمكن للباحثين مناقشتها، فقد أثارت اعتراض بعض الحاضرين الذين عبر عنهم نصر حامد أبو زيد مؤكداً في الجلسة التالية على ان الدعوة الرسمية الى هذا اللقاء لم تتضمن ما يشير الى ان سياسياً يقصد الأمير هشام بن عبدالله سوف يكون حاضراً جلسة الافتتاح بشكل رسمي، أو انه يرعى هذا اللقاء بشكل مباشر. هذا الاعتراض رد عليه عبدالله حمودي المشرف على اللقاء بالاشارة الى ان الأمير المغربي درس في جامعتي برينستون وستانفورد، وانه حضر هذا اللقاء باعتباره مثقفاً عربياً يهتم بالقضايا المطروحة للنقاش، وطلب من الحاضرين مناقشة كلمته كأية ورقة تم تقديمها، وان الأمير على استعداد لقبول أية آراء حولها. بعد جلسة الافتتاح هذه التي حضرها أيضاً عمدة غرناطة، ركز اللقاء على أربعة محاور حاولت ان تتناول مشاكل الفكر العربي بجميع جوانبه، وشارك في طرح تلك المشاكل وتقديم رؤيتهم اليها عدد من المفكرين المعروفين من بينهم كمال أبو ديب ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي ونصر حامد أبو زيد وفريال غزول ومحمد سيد احمد وصادق العظم، اضافة الى آخرين. ومن الجانب الاسباني بدرو مارتينيث مونتابث وكارمن رويث والأميرة تريساي بوربون الاستاذة بجامعة مدريد. واتضح خلال اللقاء وجود هوة واسعة بين العديد من الشخصيات المشاركة في كيفة ادارة الحوار والنقاش، ما أدى الى تعليقات جانبية حول تلك الطريقة التي اعترض البعض عليها. ومن خلال المداخلات التي شارك فيها جمهور الحاضرين تم طرح آراء عدة منها إلغاء الجدول المعد مسبقاً والذي حوّل الأوراق المطروحة الى نوع من المحاضرات التي تتعالى على جمهور الحاضرين، وتحاول ان تقدم لهم الآراء وكأنهم تلاميذ في قاعات الدرس، واقترح التحول الى التركيز على محاور اساسية يرون أنها أهم. وعلى رغم وجود أغلبية أيدت هذا الاقتراح، الا ان ادارة المؤتمر قررت المضي في برنامجها، ما أثار العديد من الحاضرين الذين رأوا انه لا فائدة من مناقشة أوراق لا تتناول القضايا الحقيقية المطروحة على ساحة الفكر العربي، وبشكل يسمح بمساهمة أكثر فاعلية لجمهور الحاضرين. أهم ما ميز لقاء غرناطة بروز الخلافات التي تصبغ اللقاءات بين المثقفين العرب التي جرت وتجري على الأرض العربية أو خارجها، وتأكد ان تلك اللقاءات لا تزال تحكمها الغربة التي يعيشها هؤلاء المثقفون خلال العقود الأخيرة، والذين يعيشون منهم خارج الوطن اختار أكثرهم منافيهم، والذين يعيشون في أرض الوطن مغتربون اجبارياً من خلال إبعاد السلطة السياسية لهم عن دورهم المنوط بهم، أو انهم مبعدون بشكل اختياري تجنباً للصدام مع تلك السلطة. يبدو ان المثقف العربي لا يفيد من غربته خارج الوطن، اذ ما ان تتاح له الفرصة في الكلام من على منصة تعلو أو تواجه جمهوراً، حتى ينسى ما ينادي به من شعارات، ليتحدث باللهجة التي يعلن عن رفضه لها. وكثيراً ما يسقط في بديهيات مرفوضة، كأن يناقش قضايا الثقافة العربية، وبشكل خاص التراث العربي بلغة غير عربية. كان هذا واضحاً في الطريقة التي ألقى بها المحاضرون أوراقهم من على المنصة، وتجلى ذلك في ورقة كمال أبو ديب وعنوانها "في الفكر النقدي والفكر النقضي"، اذ حاول ان يقدم فيها نظرية متكاملة - من وجهة نظر الباحث - لما يجب ان يكون عليه الإبداع في الفكر العربي، متناسياً ان التنظير لا يأتي قبل الابداع في الفكر، ومتناسياً ان أية نظرية مهما كان احكامها وتناسقها لا يمكن تطبيقها على إبداع معين من دون ان يخرج هذا الابداع عن تلك النظرية. ثم كان هذا واضحاً ايضاً في الردود التي خرجت من القاعة موجهة الى المنصة تحاول ان تعيد المحاضر الى مكانه الطبيعي، وتطالبه بأن يكون أكثر تواضعاً وديموقراطية. لكن تلك الردود كانت غير متناسقة مع شعارات المتحدثين بها، لأنها ايضاً خرجت عن كونها مجرد تنبيه وتقويم لما تراه غير متفق مع الفكر المطلوب تطبيقه للخروج من المأزق العربي، لتتحول الى نوع من الممارسة غير الديموقراطية ايضاً، فكان أكثرها استعراضاً للعضلات وكشفاً للمثالب من دون التوقف عند الايجابيات في ورقة الباحث، والتي تصلح لأن تكون بداية لحوار ايجابي مثمر ما بين الباحث والمحاور من القاعة. لكن هذا الحوار لم يكن سلبياً كله، بل كانت له ايجابيات لأنه دفع بعض الباحثين الى العودة الى أوراقهم المطبوعة وتقديم بديل عنها، بعد ان تنبهوا الى اخطاء ربما لم ينتبهوا اليها اثناء كتابتها. وتجلى هذا عند الباحث المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي الذي قرأ ورقة اخرى غير تلك التي كانت مطبوعة وموجودة بين أيدي الحاضرين، وأعلن عن هذا صراحة. والحق ان الورقة الجديدة تفادت الاخطاء التي كان يمكن ان تُعرّض الباحث لانتقادات مشابهة لما تعرض له كمال أبو ديب. وبدا هذا واضحاً في الردود التي ناقشت الورقة، اذ تراجع اكثر من مناقش عن تعديد مثالب الورقة الأولى، وتحدثوا عن ايجابيات الورقة الجديدة التي قدمها الباحث. غير ان ورقة الباحث المغربي على ايجابيتها كشفت عن سلبية مهمة في الحوار الثقافي العربي، لأن الرد على عرضها من جانب باحث مغربي آخر جاء باللغة الفرنسية ؟! ما طرح تساؤلاً مهماً في القاعة التي شهدت اللقاء؟ كيف يمكن لباحث ومثقف عربي يضع نفسه في اطار "الانتلجنسيا العربية" المطالبة بالبحث في مشاكل هذه الأمة ومساعدتها في الخروج من أزمتها، والتي يعتبر التغريب أهم مشاكلها، ان يتحدث الى جمهوره بلغة غير لغة تلك الأمة؟ إلا إذا كان هذا مدعاة الى بحوث اخرى تحاول ان تبحث احدى السلبيات التي يتعرض لها المثقف العربي، وهو تغريبه عن لغته أيضاً !. في لقاء غرناطة حاول البعض ان يطالب الحاضرين بإقامة حوار مع الآخر، في اشارة واضحة الى أوروبا والولايات المتحدة، حتى يمكن الاستفادة من تجربة "ذلك الآخر" في التعرف على الذات، لكن هذا اللقاء كشف بوضوح عن غياب امكانات الحوار مع الذات، ذلك الحوار الذي يجب ان يسبق الحوار مع الآخر، وان المثقف العربي مطالب بأن يقيم حواراً ايجابياً مع ذاته أولاً ليتعرف عليها وعلى مشاكلها ويقيمها. ختام لقاء غرناطة لم يكن أقل إثارة للجدل من افتتاحه، فقد اشار الشاعر أدونيس رئيس الجلسة الختامية الى وجود ثلاثة اقتراحات بارزة في الختام: أولها اقتراح انشاء رابطة لأهل الفكر والأدب والعلوم تنبثق عن هذا اللقاء، والثاني إصدار بيان حول وضع المفكر المصري نصر حامد أبو زيد الذي يعيش في منفى اجباري بعد تعرضه للتهديد بالقتل من جانب بعض المتطرفين، اما الثالث فتضمن اصدار بيان ختامي يشير الى وضع المثقفين في العالم العربي.