يومياتُ يدِ الشاعر 1 أجدُني تلقائياً في حديث مع اليد. يدي. لم أنتظر أحداً ليقدم لي يدي. في مناسبة من مناسبات الحياة الاجتماعية أو الثقافية. هي يدي التي كنت عثرت عليها في صباي. وأنا أخطّ بقلم القصب على اللوح قلمٌ وصُمَاقٌ. واليد الباردة في صباحات الشتاء. زرقاء من شدة البرد. بصعوبة تضغط الأصابع على القلم. وتخطّ كلمات. هي كلمات القرآن. كلماتٌ. لم أكن أعرف ما معنى الآية. ولا معنى السورة. كلمات. ولا تطلُب مني أكثر مما أنا كنت أجتهد في التعرّف عليه. طائفة من حروف تضيع مني سماتها. والحروف في كلمات. مجردة من المعنى. هي يدي. في حديث معها. ربما كنت قريباً من العالم وأنا أتحدث مع يدي. ربما كنت بعيداً. من منا يدرك أسرار الذات وأسرار العالم؟ من منا قادر على الجزم بحقيقة ما يرى وما يسمع؟ أبتعد عن تُرهات كانت صالحة لعقولنا الفطرية ذات يوم. فإذا هي ليست نحن. ولا هي ليست العالم. أتحدث مع يدي. شخصياً لا أستغرب. يد وحديث شخص مع يده. ما الذي يزعجك في حالة كهذه؟ نعم. يمكن أن تعود من جديد الى من يُصدرون الأحكام. الواقفين وراء الباب. الحاملين نعوشاً لكل من يُحدّث يده. وفي النهاية أقول. هذا لا يهمني. صباحٌ في حديث مع اليد. يدي. أحسُّ انني أطير بقوة ما أنا فيه. بدون جناحين. ولا خيال. في داخلي قوة ترفعني من فوق الكرسي وتسبح بي خارج الغرفة والجدران. جسد مشدود الى هواء. والهواء في لون أزرق. سماء. هي النفس. وهي الهذيان. أنا من أهل الهذيان. في لقاء مع يدي. حديث مع يدي. ولا أبحث عمن يمكن أن يُعيدني الى رُشدي. كما يقولون. العودة بالنسبة لي أخت الهذيان. تلك هي النشوة. التي أصبحت حاميها من الانكشاف. نشوة مع يد. وهذيان حديث مع اليد. عندما يبدأ الصباح وتحضر اليد. تكون العين قد انخطفت والنفس في جهة أخرى من الكلام. الهذيان أجمل الكلام. من نفس الى صاحبها. في حديث غير مفهوم. منفصل عن العالم. عن العذاب اليومي. عن الألم الذي لا ينحدّ. وأنا في حديث مع يدي. 2 تلك اليد التي أنا في حديث معها. هي اليد التي تكتب. وهي لذلك يد الشاعر. يدٌ تعيش اليوم. في زمننا. تجربة التخلي عن تاريخها. بهذا ظهرت تلك اليد التي تغيب عن الأدب. وهي اليوم. يد الشاعر. شاعر. في أي لغة. يد بها تكتب القصيدة نفسها. هنا يبدأ السر. وهنا كل شيء يُقبل على الحديث. يد الشاعر. في الصباح. عندما كان يأخذ الورقة ويكتب. بيتاً. أبياتاً. قصيدة. لغات وتاريخ لهذه اليد. منها نشأت حضارات. الفرعونية، الآشورية. الصينية. الهندية. الفارسية. اليونانية. اللاتينية. العربية. الحضارات الباذخة. حضارات في الأمكنة الأخرى من العالم. في أميركا اللاتينية. واليد تظهر في حياة الحضارة البشرية. لكن يد الشاعر كانت يداً عُليا. اليد العُليا. تاريخ هذه اليد. وما علاقة هذا التاريخ بيدي؟ لا أسأل. بل أُثبت ما ننساه. في زمن يتخلى فيه الشاعر عن اليد. بعنف يبترها. بدون سيف ولا نطع ولا سيّاف. لحياة التقنية. والاستهلاك. والإعلام. والطرق الكبرى للمواصلات. ما يليق ببتر لا أحد ينتبه اليه. حتى الشاعر لم يعد يحس بألم بتر يده. بنفسه يضع اليد رهن إشارة الآلة. ثم يمضي دون أن يلتفت الى ما سيقع لها. هو تركها هناك. وهي من بقايا زمن قديم. زمن المحبرة. والقلم. والممحاة. والمنشفَة أين أنت أيتُها المنشفة؟. واتساخ الأصابع. والتعب في السيطرة على الورقة. وهو أصبح يكره تذكّر زمن لا جمال فيه. ولا أناقة. ترك يده للآلة. يبترها بحسب ما يُلائم الآلة. ذلك ما أثبته. بهدوء. فأنا غير متعجل. أريد أن يطول هذا الحديث مع يدي. وهو يتبع شكل الحلزون. يدور ليدور. دون أن ينتهي أبداً. تاريخ يد. تكتب. يد الشاعر. في كل لغة من اللغات المكتوبة. يد وورقة وقلم. حتى تبدأ القصيدة. ذلك ما يحدث في الصباح. بالنسبة لي على الأقل. وأفكر في الصين. في الشاعر الصيني. الذي لا تنفصل حركة الخط لديه عن حركة كتابة القصيدة. في لحظة الحياة الكلية. حيث تحضُر حركة الكون في حركة اليد. وصوت الحكمة الأبدية في نفس الشاعر. انه لا يتكلم، يكتب. بيد. يخط بها. وهو يتبع حركة النفس. جامعاً بين الوجود في كون وبين حكمة ان يوجد. في بيت شعريّ. موجز. ذلك هو ايجاز القصيدة الصينية. يد الشاعر الصيني تماثل جلالة يد الشاعر الفرعوني. الشاعر الأول في الحضارة البشرية. على ورق البُردي. الألوان. والمعادن. الذهب. لأجل كتابة. هي القصيدة. واهبة الخلود. إيزيس. والموكب. والشمس. والنيل. لكل هذا كانت القصيدة إلاهة. إلاهة الآلهة. هي التي أنشأت وصوّرت. هي التي دلّت وأخبرت. هي التي أمرت وملكت. هي النقطة وهي اللانهاية. في قصيدة فرعونية. كتبتها يد الشاعر. ترديداً لموكب لا يتوقف. في طريق الخلود. معجزة. قصيدة. تخشع لها النفوس. 3 سر هذه اليد أقوى مما أنا فيه. يلزم التهيؤ للأبعد. في الظهور. أمامك. فيك. يدٌ تكتب. وأنت اليوم تنساها. تُلقي بها الى آلة. تبترها بنفسٍ راضية. قطعت معها الودّ. الذي كان. والحنين الذي كان. والوصل والهجر. ذلك النشيد الذي كان يحرقك. آناء ليل يظل ليلاً على الدوام. في هذا الليل. سُكرك أجمل من كل سكر. وبهاؤك في أصفى الحالات. بينك وبين اليد. تكتب ما لا تعلم. وما لا تريد أن تعلم. أنت في شطحك. واليد غائبة عنك. وأنت غائب عنها. معاً ترحلان. الى مكان لا أنت تعرفه ولا هي. لكنك اليوم نسيت. أنستك الآلة. الحاسوب. ما كان لك مع يد. لا تشبه يداً أخرى ولا آلة. راضياً تسلمُها للبتر. في أسواق عمومية لا أحد يلتفت فيها الى مشهد البتر. لكثرة الأيدي التي تتنافس في البتر. ولكثرة المتباهين ببتر أيديهم. وأنا أحدثها في الصباح. يدي التي لا أفارقها. بل يدي التي أصاحبها في صمتها. وهي قريبة مني. لها القلم الذي تفضله. ولها الورقة. في دفتر. بمربعات صغيرة. دائماً لها الشكل نفسه. وهي التي ألازمها. في حديث عن حركة الأصابع. وعن حوادث. تلك الحوادث التي تُنعش الكتابة. بذرة جمال الكتابة. بخط اليد. يد الشاعر. الحوادث. الحادثة. بين القلم واليد والورقة. عندما يبدأ التشطيب على كلمة. كلمات. أبيات. حادثة على طريق القصيدة نحو القصيدة. وأنت تسترجع لذة التأمل في كلمة. في حرف. فإذا أنت على حد الجنون. تشطب. بيد. وقلم. على كلمة. كلمات. هذه الحادثة هي ما لا تعوضه الآلة. الحاسوب. جمال أن تشطب بحرية. والتشطيب واضح فوق الورقة. تشطيب على طريق كانت تُغري القصيدة كي تنحرف عن طريقها السري. المجهول. يدٌ. تشطب. تواضعاً أمام القصيدة. التي لا تبلغها إلا مجاهدة. من حادثة الى حادثة. لا من بيت الى بيت. في الطريق. ترى اليد تشطب. لا تتوقف عن التشطيب. وأنت في شطحات خالصة لا تحس فيها بما يتعارض مع فعل التشطيب. الكلمات. التي لا تنصت الى الصوت الخفيِّ للقصيدة. الآمر. لها باتباع طريق أنت تجهلها وهي تقود القصيدة نحوها مشطبة على كل كلمة تندس بين الكلمات تحريفاً لمسار. طريق. القصيدة نحو القصيدة. 4 تخط وتشطب. هذه اليد. وأنا أتحدث معها عن تاريخ لي. وتاريخ لها. بعيداً عني. في حياة بشرية. تتقدم أمامي. حضارات قديمة ومغامرات فردية. أتذكّر أبا تمام. وهو مُلقى على الأرض باحثاً عن كلمة. دائماً تغويني حوادث أبي تمام. الذي عاش من أجل كتابة قصيدته. فلما أكملها. مات. قبل بلوغ سن الخمسين. لم يبق لديه ما يفعل في العالم. إنه أتى من أجل قصيدة. وقد أكملها. هو يعلم ذلك. فلم يجمع الناس ولم يُلق فيهم خطبة الوداع. ما كان حريصاً على كتابته كتبه. ومضى. ونحن. جيلاً بعد جيل. نفتح ديوان أبي تمام. ونقضي عمراً في قراءته فلا نُكمل قراءة ما هو أكمل كتابته. يده كانت كتبت القصيدة. وهو كان عاشقاً ليده. يمنع عنها ما يمكن أن يحرّف القصيدة عن طريقها. كان شديد الصرامة. وعصره الذي لم يكن معه على وفاق لم يمنعه من كتابة قصيدته. لأن إخلاص أبي تمام ليده كان إخلاصاً للتشطيب على ما يحرّف القصيدة عن طريقها. أتذكر شعراء. استحضرهم. في جلسة واحدة. وأنا سعيد بهذا اللقاء مع أموات يظلون أصدقاء أوفياء. إنهم أهلي. كلما أقبلت عليهم فتحوا الأبواب. وتركوني أنظر الى أيديهم تخط القصيدة. لساعات. تخط وتشطب. وأنا أتابع حركة التشطيب قائلاً إنها متعة الكتابة. لا متعة توازيها. في التشطيب اللانهائي الذي لا يتنازل عن حقه في الكتابة. حاضراً فيها. متمرداً على سواها. وهو غير نادم على ما كان له مع السابقين عليّ. ولا معي أنا. لأنه يسكن اليد. ومنها يطل عليّ. ينزل من مكان مجهول. أراه ينزل. فقط. ويسير جنبي. بيدي أقترب منه. وهو يحترم طريقه. لا يلتفت الى من لا يعنيه أمرهم. 5 وهي التي تبقى. يدٌ في زمن يهجر اليد. وفي زمن يسلّم الشاعر يده للبتر. افتتاناً بآلة. الحاسوب. متوهماً أنه من أهل الحداثة. والآلة إلاهتها. يدان نظيفتان. وهو يوماً بعد يوم ينسى يداً كانت له. وينسى أنها التي كانت دلّته على الكتابة. مع آلة. هو اليوم منهمك في تصفيف حروف. متشابهة الحجم. فيما شعراء آخرون في العالم يحافظون على اليد. يخططون قصائد. في كتاب. بخطِّ اليد. التي هي ما يبقى لهم. ناجياً من أسواق العرض والطلب. يد لا تباع. رغم إغراء التقنيات. ووفرة المال. هي نفسها التي لا تشبهها يد ولا تعوضها. واليد المبتورة في السماء تصرخ. فيك أنت الذي نسيتها. مبتورة. تصرخ. من صباح لصباح.