لمناسبة عيد المرأة العالمي الذي يتم الاحتفال به في الثامن من آذار مارس من كل عام، أوجه التحية الى المرأة الأميركية راشيل كوري التي استشهدت العام الماضي في فلسطين، والتي تحل ذكراها في آذار، شهر المرأة، وهو الشهر الذي خصص له المركز الثقافي الأميركي في دمشق مجموعة من النشاطات والفاعليات الثقافية تحت عنوان: "روافد نسائية" تتضمن معارض للفن التشكيلي وأفلاماً ومحاضرات ومناقشات، من دون أن يشار في واحدة منها بطبيعة الحال الى اسم راشيل كوري المرأة الأميركية التي جاء استشهادها فوق أرض فلسطين ليحمل معنى خاصاً وبليغاً في الدفاع عن كل القيم الأميركية التي تتحدث عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. ولأن راشيل آمنت بهذه القيم فقد تركت مدينتها اوليمبا وقطعت دراستها الجامعية في ولاية واشنطن. وصلت راشيل الى رفح في 25 شباط فبراير ضمن مجموعة حركة التضامن الدولية مع الشعب الفلسطيني وهي الفترة التي كان فيها العالم منشغلاً بما قد يحدث في العراق في حين كان القلق يعتري تلك الشابة من أن تنتهز القوات المسلحة الاسرائيلية فرصة توجه الأنظار نحو العراق لتصعيد نشاطاتها المسلحة في الأراضي المحتلة. واختارت راشيل غزة وبدأت عملها التطوعي لقناعتها بواجب التكفير عن الذنب الذي ترتكبه أميركا بتمويل دولة الإرهاب اسرائيل بمساعدة من أموال الضرائب الأميركية. لقد وجدت راشيل في الكارثة الفلسطينية عمق الأزمة الإنسانية والهوة السحيقة بين القوة والعدل، وفي فلسطين أخذ يتنامى ادراكها لعمق المأساة وهي تشارك الناس معاناتهم وخوفهم وصراعهم من أجل البقاء في مواجهة آلة البطش الاسرائيلية العمياء. تقول راشيل في احدى رسائلها: "ان أي عمل أكاديمي وأي قراءة وأي مشاركة في مؤتمرات أو مشاهدة أفلام وثائقية أو سماع قصص وروايات لم تكن لتسمح لي بإدراك الواقع هنا، إذ لا يمكن تخيل ذلك إذا لم تشاهده بنفسك، وحتى بعد ذلك تفكر طوال الوقت بما إذا كانت تجربتك تعبر عن واقع حقيقي". حينما كتبت راشيل تلك الكلمات لم تكن تعرف أن تجربتها تلك ستصير حقيقة وأن الحقيقة في فلسطين تعني شيئاً واحداً هو الموت في حين أنها ذهبت الى هناك لتدافع عن الحياة. أبداً لم تكن راشيل من هواة الإثارة والمغامرات بل كانت صبية كغيرها من الصبايا تهوى أن تعيش وتمرح، وتريد بناء مستقبل وعائلة، ترسم وتكتب الشعر وتعشق الحياة. في رسائلها شرحت جوهر المأساة الفلسطينية وهي ترى كيف تسير حياة الأطفال على ايقاع الرصاص والقنابل وأصوات الجرافات وطعم الماء الممزوج بالدم والملح والدموع. كتبت تقول: "ان أطفال فلسطين يعرفون أن الأطفال في الولاياتالمتحدة لا يرون أهاليهم يقتلون، ويعرفون أن الأطفال في الولاياتالمتحدة يشاهدون أحياناً المحيط الواسع، لكن إذا شاهدت في احدى المرات المحيط وعشت في مكان هادئ يعتبر فيه الماء من بديهيات الوجود وليست شيئاً تسرقه الجرافات في ظلمة الليل، وإذا قضيت مساء لم تفكر فيه بأن جدران المنزل قد تنهار عليك وتوقظك من نومك، وإذا التقيت أشخاصاً لم يفقدوا في يوم ما عزيزاً عليهم، وإذا عشت في عالم لا تحيطه أبراج ودبابات قاتلة ومستوطنات مسلحة وأسلاك شائكة ضخمة، سأستغرب إذا كنت ستغفر في يوم من الأيام للعالم كل معاناة طفولتك التي قضيت جميع لياليها في محاولات لاستمرار البقاء - البقاء فقط - هذا ما أستغربه عندما أفكر بهؤلاء الأطفال وأفكر بما قد يحدث بعد ادراكهم الحقيقة". في فلسطين عرفت أن الحياة صارت تساوي الدفاع عن الحياة وهذا ما دفعها لأن تكتب قائلة: "ألا تعتقدون اننا قد نسعى لاستخدام أساليب عنيفة الى حد ما للدفاع عما تبقى من أشلائنا؟". بلباسها البرتقالي وقفت راشيل كوري يوم 16 آذار بمواجهة الجرافة الأميركية الصنع في "حي السلام في مدينة رفح" وهي تحمل بيدها مكبراً للصوت أخذت تناشد عبره سائق الجرافة الاسرائيلي بالامتناع عن هدم أحد البيوت الفلسطينية القريبة من الحدود المصرية - الفلسطينية. قالوا إنها بقيت على قيد الحياة 20 دقيقة وهي تردد: "انكسر ظهري". وقالوا إن قوات الاحتلال منعت سيارات الإسعاف من الوصول فوراً الى مكان الحادث. وقالوا إن سائق الجرافة لم يكن أعمى بل انه اندفع الى الأمام متعمداً قتلها بنصل الجرافة وهذا ما أثبتته الصور التي تظهر راشيل واقفة أمام الجرافة قبل دهسها. وقالوا إن في ملامح راشيل وشكلها وسترتها البرتقالية الفوسفورية ما لا يدع مجالاً للشك في كونها ليست فلسطينية، وبالتالي فإن عملية قتلها بهذه الطريقة تؤكد مدى كره الاحتلال الاسرائيلي ليس للفلسطينيين أو للعرب فحسب، بل للإنسان نفسه وللحياة نفسها. وعلى رغم ذلك، فإن جريمة تحطيم جمجمة تلك الشابة الأميركية قوبلت برد فعل أميركي رسمي فاتر جداً لم يصل الى حد الإدانة أو التنديد بل اكتفى بطلب اجراء تحقيق سريع في الحادث. لقد عبرت راشيل عن روح أميركية فريدة حينما اختارت ان تكون في فلسطين وحينما آمنت حقاً بأن ألف باء السلام في المنطقة يبدأ من فلسطين فجاءت لتدافع عن البناء ضد الهدم والحياة ضد الموت. وفي موتها تساوى الدم الأميركي مع الدم العربي في تلك اللامبالاة في ردود الفعل الأميركية الرسمية ربما لأن راشيل في اللحظة التي كانت فيها مغطاة بالتراب وهي حية أصبحت عربية ككل العربيات اللواتي عرفن الوأد كإرث تاريخي، وربما لأن راشيل في اللحظة التي صرخت فيها: "انكسر ظهري" أصبحت فلسطينية ككل الفلسطينيات اللواتي تنكسر ظهورهن في كل يوم يندبن فيه مقتل الولد أو الأخ أو الزوج. في آذار، في شهر المرأة، قتلت راشيل كوري بأيدي أعداء الحياة حينما وقفت لتدافع عن الحياة، وها قد مر عام وعاد آذار من دون أن تفضي التحقيقات المزعومة التي وعدت بها حكومتها الى نتائج في شأن مقتلها المريع فليس أقل من أن توجه الى روحها التحية لمناسبة يوم المرأة وشهر المرأة في جميع المنتديات التي تحتفل بهذه المناسبة. فقد اختصرت راشيل في ذاتها جميع النساء وجميع المعاني النبيلة التي تحملها كل امرأة تؤمن بالعدالة والحق والخير في هذا العالم، وليس أقل من أن نزرع لذكراها وردة عند قدوم الربيع وهي الشابة التي قتلت في عمر الربيع.