ما الذي يدفع هؤلاء النسوة "الناشطات" الى مغادرة بلادهن البعيدة للمجيء الى البلدان التي تشتعل فيها الحروب دفاعاً عن "الإنسان" وحقوقه التي أعلنها ميثاق الأممالمتحدة؟ ما الذي يدفع بشابة أميركية تدعى رايتشل كوري لتأتي الى فلسطين وتموت شهيدة تحت أسنان جرّافة الجيش الاسرائيلي محاولة منع اياها من هدم منازل الفلسطينيين الأبرياء؟ ظاهرة لافتة حقاً تطرح الكثير من الأسئلة الملحّة في زمن الحروب الراهنة، حروب الظلم والقهر، حروب التكنولوجيا التي جعلت من "أطراف" العالم حقولاً للاختبار العسكري! ليست رايتشل كوري الناشطة الأولى ولا الأخيرة التي تدخل "حياتنا" نحن كعرب من بابها الواسع. قبلها جاءت ناشطات من أجل السلام والحرية والعدل، وبعدها ستأتي ناشطات من أجل الرسالة نفسها. فتيات أو نسوة شابات يتركن حياتهم المرفهة في أميركا وأوروبا، بل يهجرن أسرهنّ ومنازلهن وأعمالهنّ ويأتين رافعات البيارق البيض، مطالبات بحقوق الشعوب وحالمات بغدٍ يتساوى فيه أهل الأرض! ناشطات يدركن مسبقاً أنّ لا ثمن لما يقمن به من تضحيات، بل إنهن سيدفعن الثمن أحياناً من حياتهن وصباهنّ وآمالهنّ. يجئن متحمّسات وكأنّ القضية قضيتهنّ ويبقين على حماستهنّ ما دمن يناضلن في وسط الحروب والمعارك والقضايا الكبيرة! فنضالهنّ ليس مجرّد نزوة تعتمل فيهنّ ولا تلبث أن تنتهي! ولا هنّ يبغين أن يظهرن على الشاشات الصغيرة تحقيقاً لشهرة أو مجد عابر. إنهنّ يعملن بحسب ما يملي عليهنّ ضميرهنّ الإنساني، لا يميّزن بين عرقٍ وآخر ولا بين دين وآخر أو طائفة وأخرى. لا يميّزن بين عالم أول حديث وثري يتحدّرن منه وعالم ثالث فقير وقديم يجئن اليه بملء ارادتهنّ! كم من امرأة ناشطة برزت أخيراً خلال الوفود التي أمّت العراق لتشكّل ما يُسمّى ب"الدروع البشرية"؟ كم من فتاة تعمل الآن في المؤسسات العالمية الخيريّة من أجل ايصال الطحين والماء والدواء الى "المواطنين" المعزولين والمقهورين؟ من فلسطين الى لبنان الى كردستان الى أفغانستانوالعراق والى المناطق الأفريقية والآسيوية المشتعلة وبعض بلدان البلقان وسواها، تتنقل هؤلاء النسوة "الناشطات" غير آبهات بالموت وغير خائفات من المعارك والحروب! همّهنّ، كلّ همّهنّ، أن يسعين الى مساعدة الناس الذين لا يبالي بهم أحد، لا حكوماتهم ولا دولهم ولا قادة الإنسانية! تتنقل هؤلاء الناشطات من جنوب العالم الى شرقه وكأن الأرض أرضهنّ حيثما كنّ، وكأنّ القضيّة قضيّتهنّ أياً كانت! فلا حدود في نظرهن تفصل بين أبناء الأرض، وما من فوارق اجتماعية أو اثنية أو سياسية أو دينية تحول دون التواصل معهم، انسانياً ووجدانياً وعاطفياً. واللافت أن هؤلاء الناشطات لا يبدين أي تأفّف أو تململ أو اعتراض أو منّة أو شفقة، على رغم المصاعب والمشقات التي يواجهنها وخصوصاً في البلدان التي تستعر فيها الحروب. هنا ملفّ عن هؤلاء الناشطات وعن الرسالة التي يؤدّينها من خلال نضالهنّ الإنساني. وعسى مثل هذا الملف يلقي ضوءاً ساطعاً على "ظاهرة" لافتة جداً تؤكّد أنّ الأمل ببناء عالم جديد، عادل وحقيقي ما زال ممكناً! قبل ان تقف الشابة الاميركية رايتشل كوري امام جرافة جيش الاحتلال الاسرائيلي في رفح لتمنعها بجسدها الطري من هدم منازل المواطنين الفلسطينيين في منطقة تل السلطان، ارسلت الى خطيبها السويدي ستيفان فيللكات برقية خلوية تتمنى له فيها يوماً سعيداً في السويد الآمنة. فهي اعتادت كل يوم ان ترسل تلك البرقيات كي تؤكد لستيفان ان كل شيء على ما يرام. ولكن ذلك اليوم من شهر اذار مارس كان يحمل في طياته مفآجأت محزنة لستيفان ولمنظمة التضامن الدولية التي تنتمي اليها رايتشل وخطيبها. يأخذ ستيفان جرعة من كوب العصير وينظر في فضاء المقهى في استوكهولم والدموع ظاهرة في عينيه ويشرح الى "الحياة": "كنت في حديقة المنزل الذي كان من المفترض ان اقضي فيه عطلة الصيف مع رايتشل، ارتب زهور الحديقة وأنظف المكان. شعرت بالتعب فجلست على الكنبة أتابع الاخبار. خرج صوت المذيع بحدة يقول ان ناشطة اميركية قتلت في غزة. رفضت ان اصدق الخبر ولكن شيئاً في داخلي قيد مشاعري وكأنه قال لي ان ذلك حقيقة. ارتميت على الخلوي واتصلت بها الى فلسطين. لم يخرج صوتها من سماعة الهاتف، بل كان صوت احد زملائنا، فتأكدت وقتها انها قد استشهدت". ينطق ستيفان كلمة "استشهدت" بالعربية ويصمت قليلاً ثم يتابع ان زميله في فلسطين أكد له ان رايتشل دهستها الجرافة أثناء تصديها لها بجسدها الطري، ويقول: "شعرت في تلك اللحظة بأن الجيش العنصري الاسرائيلي دهس احلامي وايامي ولحظاتي الجميلة كلها. كما انه قتل اجمل صدفة في حياتي". تعرف ستيفان الى رايتشل في رفح عندما كانا معاً يحاولان قدر المستطاع تقديم يد العون الى العائلات الفلسطينية التي تتعرض للارهاب الاسرائيلي المستمر. هو من السويد وهي من الولاياتالمتحدة الاميركية. ترعرع الاثنان في ظروف اجتماعية جيدة، ولكن سياسياً فأن ستيفان كالعديد من السويديين له لون سياسي واضح اما رايتشل فكانت في البداية شابة عادية لم تتدخل في الامور السياسية كثيراً، ولا في الازمات الدولية. فقد ترعرعت في أحضان عائلة من الطبقة الوسطى، ولكن عندما بدأت دراستها في الكولدج في مدينتها اوليمبا القريبة من واشنطن، اصبحت تحلل الامور السياسية بعمق وتعطي من وقتها الكثير للاطلاع على مشكلات البيئة والفقر في العالم. ويتذكر ستيفان ان رايتشل "بدأت تشعر بأنها كبقية الاميركيين الذين يعيشون على خيرات الدول الفقيرة، ووجدت في الكارثة الفلسطينية عمق الازمة الانسانية والهوة بين القوة والعدل. فاتجهت نحو الاطلاع عن كثب على الموضوع الفلسطيني وقرأت الكثير من الدراسات والابحاث وبعد فترة من اقتناعها انه حان الوقت للاحتجاج على دعم الولاياتالمتحدة الاميركية المطلق والعنصري لإسرائيل انكبت على دراسة اللغة العربية كي تهيئ نفسها للسفر الى فلسطين والتضامن مع الشعب هناك". كانت الرحلة الاولى لها الى فلسطين. اختارت قطاع غزة، وبالتحديد منطقة رفح على الحدود مع مصر لأنها كانت مقتنعة بأن التضامن يجب ان يكون مبنياً على علاقات حميمة تذهب في العمق مع العائلات الفلسطينية ولم تكن تريد ان تتنقل من مدينة الى اخرى لاعتقادها بأن ذلك لن يعطي تأثيراً كبيراً. "تعرفنا الى عائلات المنطقة واصبحت تربطنا صلة حميمة صادقة مع البشر هناك. كانت رايتشل أكثر واحدة بيننا مبادرة باتخاذ خطوات عملانية، اذ انه عندما كانت الدبابات الاسرائيلية تجتاح منطقة رفح كانت في المقدمة لردعها، وتشجعنا على مواجهتها". يخرج ستيفان صوراً لخطيبته وهي تعتلي سقف جرافة عامل فلسطيني من اجل حمايته من قناصة جيش الاحتلال وصور اخرى تحمل شهيداً فلسطينياً قتله الجنود، ويقول: "حادثة قتل ذلك الشاب الفلسطيني تركت أثراً كبيراً في نفسي ونفوس الكثيرين من الناشطين في حركة التضامن. عندما وصلنا الخبر بمقتل شاب فلسطيني ومحاولة الجيش الاسرائيلي تفجير جسده، ركضنا كلنا لنحضر الجثة. كلما اقتربنا خطوة من الجسد انهمر حولنا رصاص الجيش الاسرائيلي الذي اراد تخويفنا. كنا على يقين انه من الممكن ان يصاب واحد منا. استمررنا في المشي نحو جسد الشهيد قبل بضعة امتار شاهدت رايتشل على مفترق الطريق اطفالاً فلسطينيين يحاولون العبور فركضت اليهم لمرافقتهم الى الجهة الاخرى من اجل ان لا يطلق الجيش الاسرائيلي النار عليهم ويخيفهم او يصيبهم بأذى، ثم عادت لتساعدنا في حمل الجثة"، يتابع ستيفان ان رايتشل كانت حريصة دائماً على مساعدة الاطفال لأنهم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، لذا قضت ليالي طوال بين عائلات منطقة رفح من اجل حمايتها من النار الاسرائيلية. ولكن ما الذي يدفع شابة في مقتبل العمر تعيش في وضعية جيدة في اميركا الى القدوم الى رفح الفقيرة ووضع حياتها في خطر من اجل حماية شعب لم تعرفه سوى من خلال الصحف والكتب؟ يشرح ستيفان ان رايتشل كانت دائماً تعبر عن استيائها من السياسة الاميركية تجاه الفلسطينيين، فهي كانت تشعر بعقدة ذنب لأن "بلدها يدعم دولة ارهابية تقتل المدنيين وترهب شعباً شبه اعزل منذ سنة 1948. كما انها كانت مقتنعة بأن الضرائب الاميركية ساهمت وتساهم في دعم ترسانة الجيش الاسرائيلي لذا ارادت ان تكفر عن ذنوب مواطني بلدها الذين تستغل اموالهم في القتل والاغتصاب. فلم تجد سبيلاً الا السفر الى فلسطين لتصبح درعاً بشرية لتلك العائلات". مهمتها الأولى يشرح ستيفان ان الاعمال التي كانوا يقومون بها في فلسطين كانت محدودة جداً امام الآلة العسكرية الاسرائيلية، اذ كانت مهمتهم محاولة حماية بعض العائلات الفلسطينية عبر تواجدهم بينها، يضيف: "بعض الاحيان تدخل الدبابات الاسرائيلية برفقة جرافة ضخمة مهمتها هدم بعض البيوت. واثناء سيرها تقوم بجرف الطريق امامها وتفلح الارض من ورائها باستخدام محراث حديدي ضخم في مؤخرتها ما يتسبب بكسر قساطل المياه. وعندما يحاول عمال البلدية اعادة تصليح ما دمره جيش الاحتلال يطلق عليهم الجنود نيران رشاشاتهم، ولكن من اجل اتمام عملية تصليح القساطل كنا نرافق عمال البلدية الى المكان المتضرر ونبقى معهم حتى اتمام المهمة". ويتابع ستيفان انه وخطيبته رايتشل كانا في بعض الاحيان يرافقان رب عائلة فلسطينية يريد تركيب صحن لاقط للتلفزة على شرفته، او السكن بالقرب من خزان مياه كي لا يدمره الجنود، ويقول: "كانت رايتشل تحزن كثيراً عندما يتسلى جنود الاحتلال باطلاق رصاصاتهم على براميل المياه خاصة، فهذه احدى اهم هواياتهم التي كانوا يرهبون بها شعب فلسطين". يعبر ستيفان بحزن عن شوقه لخطيبته ولكنه يؤكد ان رايتشل "ليست حزينة الآن، فهي لم تفرق أبداً بين روحها وروح الطفل علي ابن الثماني سنوات الذي قتل امامها. كانت مقتنعة بالذي تقوم به، فهي على رغم انها كانت فتاة عادية ولكن ما يميزها عن البقية انها اتخذت الخطوة التي اقتنعت بها". ويعتقد ستيفان ان ما قدمته رايتشل للشعب الفلسطيني سيترك اثراً كبيراً في المجتمع الاميريكي خصوصاً ان "ذلك المجتمع يدعم منذ أكثر من 50 سنة الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، ولكن افراداً مثل رايتشل يمكنهم ان يغيروا الوضع في اميركا. فهي كانت دائماً تشدد على اهمية التواصل مع محطات التلفزة والراديو في اميركا من اجل شرح المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون. كما ان عملية قتلها على يد الاسرائيليين ستؤكد مدى كره الاحتلال الاسرائيلي للانسان. فهم يقولون ان رايتشل قتلت بطريق الخطأ، ولكن بالنسبة إلي فأن خطيبتي قتلت على يد المجرمين الاسرائيليين. فهي وقفت امام الجرافة الاسرائيلية وكان بيدها مكبر للصوت حاولت من خلاله ان تخاطب سائق الجرافة وتجبره على التراجع. كما انه كان من الواضح انها ليست فلسطينية من خلال شكلها، والاسرائيليون يعرفون اننا نرتدي سترات برتقالية من اجل تمييزنا عن البقية. ورايتشل كانت ترتدي تلك السترة وتخاطب السائق بالانكليزية الا انه قتلها عمداً". ويضيف ستيفان ان رفاق رايتشل الذين كانوا معها اكدوا له انها بقيت على قيد الحياة لفترة 20 دقيقة بعد ان دهستها الجرافة، وهي كانت تقول لزملائها: "أشعر بأن ظهري انقسم الى نصفين"، ثم لفظت انفاسها الاخيرة في المستشفى. كانت رايتشل تخطط لأن تأتي الى السويد بعد نهاية شهر نيسان ابريل، فهي كما يشرح ستيفان كانت تفضل العمل التطوعي على بقية مشاريعها "ورددت مراراً امامي انه سيكون لنا الوقت الكافي لنرسم مستقبلنا عندما تأتي الى السويد. كانت فتاة مثل بقية فتيات عمرها، تحب الحياة والمرح وتريد ان تبني مستقبلاً وعائلة لها، كما كانت تحب كتابة الشعر والرسم والعمل مع المظلومين. ولم تكن تهوى المغامرات، وانما عملها التطوعي في فلسطين كان نابعاً من قناعة بواجب التكفير عن الذنب الذي ترتكبه اميركا بتمويل دولة الارهاب اسرائيل بمساعدة من اموال الضرائب الاميركية. ولكن رحلتها الاولى الى فلسطين كانت رحلة تلاحم جسدها الطفولي مع تراب الارض التي ارادت ان تحميها وقدمت روحها لها". ويقول ستيفان ان "رايتشل اصبحت الشهيدة الاولى التي تقدمها منظمة التضامن الدولي. واعتقد ان عملية قتلها اتت لتمهد لحملة قتل جماعية للشعب الفلسطيني. فالاحتلال الاسرائيلي يريد من خلال قتلها ترهيب الناشطين في منظمة التضامن من اجل اجبارهم على مغادرة فلسطين كي يتمكن جيش الاحتلال من تنفيذ مخططه العنصري في ظل الحرب الاميركية على العراق. ولكن بعد ان تكلمت مع الكثير من اعضاء المنظمة شعرت ان هناك تصميماً اكبر على الاستمرار بما بدأنا به وسنرسل دروعاً بشرية اكثر من الماضي من اجل ان نكون شهوداً على ما يرتكبه النظام العنصري الاسرائيلي. وبالنسبة إلي فأن قتل رايتشل ادى الى قتل احلامي ومستقبلي واصبحت مؤمناً اكثر بأن اسرائيل دولة عنصرية ومعادية للبشر".