كان من المتوقع أن تكون المواجهة الانتخابية للحصول على ترشيح الحزب الديموقراطي للمعركة الرئاسية المقبلة مواجهة بين هاورد دين، حاكم ولاية فيرمونت السابق، وبين ويسلي كلارك، صاحب السجل العسكري المهيب. إلا أن حصيلة الجولات الأولى جاءت مخالفة للتوقعات، حيث أن الأبرز بين المرشحين ليس دين ولا كلارك، بل جون كيري عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس. ما الذي جرى؟ وهل يشكل كيري بالفعل المنافس الديموقراطي الأفضل للرئيس جورج دبليو بوش؟ ما لا بد من التنبيه إليه هو أن الانتخابات التحضيرية التي يجريها الحزب الديموقراطي لاختيار مرشحه ما زالت في مراحلها الأولية، ورغم أن الزخم الذي تضفيه هذه المراحل على حملة المرشح الذي يبرز خلالها غالباً ما يدفع به للحصول فعلاً على ترشيح الحزب. إلا أن المفاجآت ليست مستبعدة، فلا يمكن الجزم بالتالي بأن كيري، والذي حصل لتوّه على تأييد أكبر عدد من الناخبين الديموقراطيين في سبع ولايات من أصل تسع أجريت فيها الانتخابات، هو الذي سيواجه الرئيس بوش في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. المؤكد وحسب أن انتصارات كيري هذه سوف تعرضه لحملة مركزة من فريق عمل دين الذي كان يستعد للتصدي لكلارك. إذ رغم الانتكاسة التي تشكلها هذه النتائج لدين، فإنه لا يزال قادراً على حصد التأييد في العديد من الولايات المهمة، وصولاً إلى المؤتمر الحزبي الديموقراطي المقرر عقده في تموز يوليو المقبل في مدينة بوسطن. لكن على رغم إصرار فريق عمل دين على التقليل من أهمية نتائج المراحل الأولية، فإن جون كيري هو اليوم في الطليعة، بل إن استطلاعات الرأي العام تشير إلى تأييد واسع النطاق له يجعل منه المرشح الديموقراطي الأوفر حظاً للفوز إزاء الرئيس بوش في الانتخابات الرئاسية. يمكن بالطبع إهمال هذه الاستطلاعات باعتبارها آنية الطابع تعكس وحسب ردة فعل في مجتمع أميركي يتجاوب فقط مع حدث انتصارات كيري غير المتوقعة. غير أن لكيري سجلا سياسيا فعليا قابلا للتثمير سواء في تثبيت المكاسب التي تحققت إعلامياً وانتخابياً وتكرارها في المرحلة المقبلة، أو في التصدي له لإسقاطه لصالح دين في المرحلة المقبلة، أو لصالح بوش في حال عجز دين عن انتزاع الترشيح الديموقراطي في مواجهته. وبروز جون كيري السياسي ليس حديث العهد. إذ لم يكن كيري قد تجاوز السابعة والعشرين، عام 1971، حين شارك كشاهد في إحدى جلسات لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ليدين الحرب في فيتنام. وكان لموقفه هذا صدى واسع النطاق نتيجة خلفيته العائلية والعسكرية على حد سواء. ذلك أن كيري نشأ في وسط اجتماعي بارز ميسور في الشمال الشرقي الأميركي، وانتسب إلى جامعة ييل العريقة وتخرج منها عام 1966 قبل الالتحاق بالقوات المسلحة والمشاركة في حرب فيتنام. وفي حين تميّزت خدمته العسكرية بالتفوق والبروز وبمجموعة من الأوسمة، فإنه عاد من فيتنام عام 1970 مقتنعاً بعدم جدوى الحرب وافتقارها إلى المنطق والعدالة. فكان لموقفه ولشهادته أمام مجلس الشيوخ الأثر الفاعل في المساهمة في توسيع نطاق المعارضة للحرب. وقد درس كيري بعد عودته من فيتنام المحاماة ثم مارسها في القطاعين العام والخاص، قبل أن يرضى به مايكل دوكاكس عام 1982 نائباً عنه لحاكمية ولاية ماساتشوستس. لكنه تخلى عن هذا المنصب بعد عامين ليخوض معركة انتخابية أوصلته مجدداً إلى مجلس الشيوخ، ولكنْ لا كشاهد، بل كعضو عن ولاية ماساتشوستس، وهو المنصب الذي ما زال يشغله منذ قرابة عقدين من الزمن. أما سجل كيري في مجلس الشيوخ فتميّز بالتقدمية الليبرالية التي تعكس وجهة نظر قطاع واسع من الناخبين في ماساتشوستس وفي الشمال الشرقي ككل. إلا أنه حافظ على قدر من الاستقلالية إزاء الإجماع الحزبي الديموقراطي، لا سيما في موضوع التربية التي خصص لها الحصة الكبرى من نشاطه. وفي حين أنه تابع إيلاء قضية العسكريين الأميركيين المفقودين في فيتنام اهتمامه وصولاً إلى الإشراف على تقصّي حقائق جاء بنتيجة أنه ليس في فيتنام منهم من لا يزال على قيد الحياة، فإنه مواقفه حول الشؤون الخارجية بشكل عام تميزت بقدر من الاطلاع والمتابعة. وكان كيري من المعارضين للتدخل الأميركي في حرب تحرير الكويت عام 1991، إلا أنه أيد القرار الصادر عن الكونغرس حول تخويل الحكومة الأميركية اللجوء إلى القوة في المواجهة مع صدام قبيل الحرب الأخيرة. غير أن هذا التأييد لم يمنعه من توجيه النقد اللاذع للرئيس بوش متهماً إياه بعدم التخطيط الكافي لمرحلة ما بعد الحرب وبالاستهتار بالمجتمع الدولي. أما في موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فحافظ كيري على موقف داعٍ إلى تسوية سلمية على أساس "خريطة الطريق" وصولاً إلى قيام دولتين متجاورتين فلسطينية وإسرائيلية. والواقع أن كيري استفاد إعلامياً وعلى مستوى الصورة العامة من الأخطاء والهفوات التي ارتكبها هاورد دين يوم كان في طليعة المتنافسين الديموقراطيين. ففيما كان دين ينفجر بين الحين والآخر وصولاً إلى صرخته المدوية في أعقاب خسارته في ولاية أيوا، والتي ثابرت الوسائل الإعلامية الأميركية على إعادة بثها، فإن كيري حافظ على سلوك "رئاسي"، متجنّباً توجيه النقد لزملائه الديموقراطيين إلا باعتدال، ومقتصراً في هجومه على سياسات بوش. ولا يخفى أن الصورة والهيئة الرئاسية للمرشح من الاعتبارات الهامة في المعترك الانتخابي الأميركي. لكن هذا العامل يبقى عاملاً ليّناً وعرضة للتبديل أو للتبديد. وإذا كان سجل كيري ينطوي على العديد من المقومات التي تجعل منه مرشحاً نافذاً من بطولته في فيتنام، إلى مبدئيته بعد فيتنام، واهتمامه المستمر بموضوع التربية، ومواقفه المدروسة في السياسة الخارجية، فإن فيه كذلك ما يجعل منه عرضة للنقد القادم لا محالة. يمكن بهذا الصدد الإشارة إلى الهزال النسبي لسجل كيري على مدى العقدين الماضيين في مجلس الشيوخ، حيث أن اسمه لم يرد كمؤلف إلا على عدد ضئيل من القوانين التي أقرها هذا المجلس. وفيما يسع كيري أن يشير إلى أن هذا ليس المؤشرالحاسم لتبيّن مدى نشاط عضو مجلس الشيوخ، فقد لا يلجأ دين في هذه المرحلة إلى اتهامه بالليبرالية، وهي الصفة التي نجح المحافظون بربطها بالجنوح إلى توسيع غير مبرر لدور الحكومة في المجتمع، ذلك أن دين نفسه يسعى إلى استقطاب الأوساط الاجتماعية التي لا ترى في الليبرالية السوء الذي يريده لها المحافظون، فإن كيري في حال فاز بترشيح الحزب الديموقراطي يصبح عرضة لهجوم واسع النطاق من طاقم بوش على أساس التهمة الليبرالية. بل يمكن لهذا الطاقم أن يقرن هجومه هذا بآخر ذي طابع شخصي يستفيد من خلفية كيري العائلية والزوجية للتشهير به وإظهاره بمظهر الليبرالي النمطي المنفصم عن الواقع والمنادي بمبادئ لا تتفق مع مصالح المجتمع الأميركي أو مع قيمه. على أن ثمة عاملا آخر يعمل لغير صالح كيري، وهو عامل التجربة التاريخية. فكيري، بصفته عضو مجلس الشيوخ، ينتمي إلى السلطة التشريعية. والتجربة الانتخابية الأميركية في العقود الماضية أثبتت مراراً فشل الانتقال من السلطة التشريعية إلى السلطة التنفيذية. وآخر من تمكن من تحقيق هذا الانتقال كان جون كينيدي عام 1960، إلا أنه لم يكن يواجه يومها رئيساً ساعياً إلى تجديد عهده. فالعوائق أمام جون كيري إذاً عديدة، ورغم النشوة التي تصاحب فوزه الساحق في المراحل الأولية اليوم، فالدرب أمامه في سعيه إلى بلوغ البيت الأبيض ما يزال طويلاً، والعقبات في هذا الدرب قد لا يكون تجاوزها ممكناً.