لم يكن أشد المدافعين عن نقل المنتدى الاجتماعي العالمي هذا العام الى الهند يتوقعون أن يحرز نجاحاً كبيراً. وارتفعت عشية اقفال المنتدى الثالث العام الماضي في بورتو أليغري أصوات تطالب بابقائه في هذه المدينة البرازيلية التي أحسنت استضافته، والتي كان نظام الشراكة الاجتماعية السائد فيها كان من أبرز الأفكار التي سمحت ببلورة مشروع اقامة المنتدى الذي ولد كلقاء مناهض للمنتدى الاقتصادي العالمي الذي يُقام سنوياً في دافوس. من جهة أخرى، كان المنتدى يزداد نجاحاً من سنة لأخرى، وهو في موعده الثالث تخطى حدود معارضة دافوس، وصدر في نهايته قرار يقضي بعدم اقامته في موعد عقد منتدى دافوس. وكان من أبرز مظاهر نجاح المنتدى الثالث في بورتو أليغري عام 2003 استضافته للرئيس البرازيلي اغناسيو لولا دا سيلفا، الذي شكل فوزه بالرئاسة فوزاً كبيراً لليسار البرازيلي. ولم يكن المنظمون، وخصوصاً أبناء أميركا اللاتينية، يريدون المخاطرة بالنجاح الذي حققه المنتدى، لكن ثمة تياراً "أوروبياً" يعرف عادة بأنه راديكالي في طروحاته، كان يريد الخروج بالمنتدى الى آفاق جديدة، فاقترح الإنتقال الى الهند، ولم يكن هذا التيار، أو أشد المتفائلين فيه، يتوقع النجاح الساحق للمنتدى في الهند، بل كان يعتقد بأنه ربما يشهد بعض التراجع. لكن انتشار المناهضة للعولمة يتطلب بعض التضحيات، وكانوا هؤلاء يشاركون الآخرين التوقع بألاّ ترحب الحكومة الهندية بالمنتدى. الارتباك سيطر شهوراً طويلة حول كيفية عقد المؤتمر وأي مدينة تستضيفه الى أن وقع الاختيار على بومباي العاصمة المالية للهند... ومنذ اليوم الأول للمنتدى الإجتماعي العالمي الرابع في 16 كانون الثاني يناير كانت المفازة التي لم يتوقعها أحد: منتدى بومباي خالف كل التوقعات وحقق النجاح الكبير، وشارك فيه نحو 120 ألفاً. وربما كان أبرز تلخيص للمفاجأة التي شكلها المنتدى ما قاله الهندي كريشنا مورثي أحد الناطقين باسم المؤتمر إذ قال: "الحصيلة فاقت كل آمالنا، لم نكن نتوقع أن يكون المشاركون بهذا العدد الضخم"، واعتبر أن هذه الدورة من المنتدى، هي بهذا المعنى، الأنجح وكانت غالبية المشاركين من الهند ودول آسيا، وبينهم 400 باكستاني ما اعتبر انجازاً كبيراً وكان المشاركون من 154 دولة. "عالم آخر ممكن... بل ضروري"، كان الشعار لهذا العام، ومن أبرز الوجوه الجديدة في المنتدى هذا العام المحامية الإيرانية شيرين عبادي، الحائزة جائزة نوبل للسلام، وجوزيف ستيغليتز النائب السابق لرئيس البنك الدولي، والتشيلي خوان سوميرا السكرتير العام للجنة الأميركية الشمالية للسلام. ومن العناوين التي تكررت الرفض المطلق للحرب على العراق، وتوسع الهوة الاقتصادية في العالم، والتأثيرات السلبية للعولمة الليبرالية، وبالطبع مساوئ السيطرة الأميركية على العالم، وحول هذه النقطة تحديداً كانت المحاضرات والكلمات كثيرة، أبرزها ما قاله في الافتتاح الكاتب الهندي اروندهاتي روي "للمرة الأولى في التاريخ استكملت امبراطورية واحدة مدججة بترسانة أسلحة متنوعة لاقتحام أسواق مختلفة، وما من بلد على الأرض لم يُحاصر بين صواريخ كروز الأميركية ودفتر شيكات النقد الدولي"، وكانت دعوة عبادي للمندوبين الحاضرين في المنتدى ليضغطوا على حكوماتهم كي تعيد النظر في العلاقات مع واشنطن. على أي حال كانت المشاكل التي تتخبط فيها بعض الشركات الكبرى، وأبرزها فضيحة بارمالات تأكيداً جديداً بالنسبة للمناهضين للعولمة على صحة طروحاتهم، وجاءت أقوال ستيغليتز لترسخ هذه القناعة إذ قال في المنتدى: "المتعصبون لقوانين السوق يدعون، ولأسباب ايديولوجية بحتة، أن السياسات الاقتصادية المسيطرة هي لفائدة الفقراء...ألم تلاحظوا أن البنك الدولي والمؤسسات المالية العالمية جعلوا أنظمة الحماية الإجتماعية تتراجع؟". ما الجديد الذي حملته الهند الى المنتدى، فهذه الدولة من أبرز المتضررين من العولمة، لكنها أيضاً من المنتفعين. ففقراء هذا البلد ومزارعوه ضحايا للسياسات المالية والإقتصادية التي فرضتها العولمة التي أدت الى تراجع الإقتصاد الهندي، لكن هذه البلاد تحولت في الوقت نفسه أكبر حاضنة للعاملين في القطاع التكنولوجي. في الهند خرج المنتدى عن الصبغة "الأوروبية والأميركية - اللاتينية" التي طبعته في دوراته السابقة، وصارت له نكهة آسيوية. لكنه أيضاً خرج عن طابع "نخبوي" كان يعرف به، إذ فيما جاءت مجموعات المشاركين من الطبقات الوسطى والمثقفين والأساتذة الجامعيين الهنود الى بومباي حاملين همومهم، جاء الفقراء والمزارعين وأبناء الطبقات الشعبية وسكان الضواحي المهملة، ليؤكدوا انتماءهم الى التيار المناهض للعولمة، حتى قال جوزيه بوفيه، قائد منظمة المزارعين الفرنسيين، إن "هذه الدورة من المنتدى، على عكس سابقاتها، كانت مكاناً للتعبير الإجتماعي...لا لنقاشات المثقفين". وحضر اضافة الى الهنود ممثلو الجمعيات والحركات النقابية في شرق آسيا. ومن الهموم الهندية تسليط الضوء على مشاكل فقرائها، وعلى مشاكل التمييز العنصري، والاعتداءات الجنسية، والظلم اللاحق بالعمال، وتعمق الحوار الذي كان يطرح دائماً في كل دورات المنتدى حول ممارسات الشركات العابرة للقارات. ففي بومباي تحولت شركة "كوكا كولا" الى رمز للشركات الكبرى المتهمة بتلويث البيئة، وذلك بسبب شكاوى نقلها سكان قرية بلاشيمادا، حيث مقر الشركة في الهند، متهمينها بتلويث مياه الشرب في القرية. احتفالات الفقراء في أزقة بومباي كانت أيضاً لمسة جديدة في المنتدى الذي اعتاد على احتفالات الفرح البرازيلية. وكان منتدى بومباي فرصة للتأمل بالنسبة لمنظمي المنتدى الذين استشعروا ضرورة إيجاد آليات جديدة للتحرك تتخطى الأطر التي وضعت في المنتديات السابقة، والمتمثلة بالمنتديات الإقليمية، إذ جاءت المشاركات الجديدة في بومباي لتغني شبكة التواصل بين الجمعيات المناهضة للعولمة في العالم. العام المقبل يعود المنتدى الى بورتو أليغري، وفي روزنامته عناوين فرضتها التجربة الهندية.