لعل أهم ما يميز المخرج التونسي الطيب الوحيشي كسينمائي هو إيمانه العميق بأن السينما، قبل أن تكون فناً، هي نوع من المغامرة أو المجازفة، فكل فيلم جديد يقدمه ينطوي على محاولة الكشف وارتياد المجهول بحثاً عن الحقيقة. انه يسعى، كما يبدو، ليكون بجرأة الفراشة الثالثة في حكاية فريد الدين العطار: "لاحت شمعة لثلاث فراشات، الأولى قالت: هذه تضيء، الثانية اقتربت منها فاحترق جناحاها، فقالت: هذه تحرق، فيما الثالثة رمت نفسها في النار ولم تعد لكنها عرفت الحقيقة". ولد في بلدة ميريث التابعة لقابس في الجنوب التونسي، وهي المنطقة، التي شكلت منبعاً خصباً لمعظم أفلامه لأنها - كما يبرر - "فضاء سينمائي جميل جداً يصعب التحكم فيه". عشق الفن والسينما منذ الطفولة إذ كان والده مثقفاً وشاعراً وناظراً في وزارة التعليم، ما أتاح له التنقل بين المدن التونسية الى أن استقرت الأسرة في صفاقس، المدينة الساحلية التي كانت بمثابة نقطة تحول في حياة الفتى الوحيشي، فقد اختير مسؤولاً عن نادي السينما هناك، ثم انتقل الى العاصمة لدراسة القانون، لكنه سرعان ما تركها راحلاً إلى باريس حيث التحق بمعهد دراسات السينما الفرنسي. أخرج الوحيشي فيلمه القصير الأول "قريتي... واحدة من أخرى عديدة" في مطلع السبعينات، وفاز بجائزة ذهبية في مهرجان قرطاج السينمائي، ثم تتالت أفلامه القصيرة خلال العشر سنوات اللاحقة الى أن ظهر فيلمه الروائي الأول عام 1982 بعنوان "ظل الأرض" وهو الفيلم الذي نال الإعجاب وحصد العديد من الجوائز. ثم جاء فيلمه الثاني "غوري... جزيرة الجد" الذي مزج فيه بين الخيالي والوثائقي، وفيلمه اللاحق "مجنون ليلى" عام 1989، وبعده بعقد أي في عام 1998 أخرج فيلمه "عرس القمر". يعد الوحيشي من القلائل ممن "يحاربون الابتذال"، كما يقول فهو يبحث في سينماه "عن رؤى مختلفة تثير أسئلة عميقة". وعلى رغم التقدير الكبير الذي يحظى به كسينمائي، فإنه يواجه صعوبات كبيرة في العثور على ممولين لأفلامه - الجاهزة في مخيلته وعلى الورق - والتي يصعب تصنيفها ضمن فئة أفلام شباك التذاكر أو "الجمهور عايز كده". وهو واقع أوحى له بإخراج وإنتاج فيلمه الجديد "رقصة الريح" الذي عرض ضمن فعاليات مهرجان دمشق السينمائي الأخير، والذي يتناول فيه تجربة مخرج سينمائي تائه وسط الصحراء يعاني الهواجس والقلق والخوف، لكنه يواصل الحلم و"يربي الأمل" على حد تعبير محمود درويش، فكأنما هو سيزيف الذي يصارع لعنة القدر مع إصرار عجيب على المثابرة. حول هذا الفيلم المليء بالرموز، وحول هموم السينما تطرح في الفيلم، كان الحوار الآتي مع المخرج التونسي الطيب الوحيشي الذي يصافحك بابتسامة متعبة فيما حديثه مفعم بأحلام عريضة. فيلمك الأخير يطرح أسئلة كثيرة وما إن ينتهي عرضه على الشاشة حتى يبدأ عرض جديد له في ذهن المشاهد الحائر ما الذي أردت إيصاله عبر هذا الفيلم؟ - يرتكز الفيلم على مقولة تفيد "إذا غامرنا قد ننجح وإذا لم نغامر فلن ننجح، وبهذا المعنى فإن الفيلم يحث على المغامرة التي تحتمل النجاح. وكما رأيت، فالفيلم يتحدث عن مخرج نموذج لأي مبدع آخر وهو أيضاً إنسان يتكلم عن حياته عن الموت وعن الخوف والشيخوخة وهذه كلها هواجس بشرية طبيعية. وما يهمني في هذا الفيلم هو التعبير عن مسار وعن معاناة وإنتاج عمل فني تعبيري. انه باختصار يتناول تجربة إنسان مبدع يحب أن يعبر بطريقته وبنظرته الخاصة عن أمور تؤدي الى عمل فني كما حدث في الفيلم. تقاطع الى أي مدى تتقاطع شخصية بطل الفيلم جسده المخرج الجزائري محمد شويخ مع سيرتك الذاتية - الإبداعية؟ - الفيلم سيرة إبداعية عامة ولا أقول ذلك تهرباً من السيرة الذاتية، أنا المخرج وأتحمل مسؤولية الاختيار، لكن اختياري لمخرج آخر ليقوم بالدور، وهو محمد شويخ، أردت منه ان اقول إن الوحيشي الطيب هو الوحيد المعني بالأمر ولكن أيضاً محمد شويخ وغيره من الفنانين او المفكرين او المبدعين او البشر. لذلك حاولت أن ابعد هذه الذاتية، لا خوفاً لكن لتعميم الفائدة وللتعبير عن حالة نعانيها ونعيشها وهو هذا الصراع الدائم لإيصال شيء. الذاتية موجودة، لكنني أريدها عامة وأريد القول إن هذا الشخص الذي يحمل حقيبة الإكسسوار ويجهد بها في الصحراء هو "سيزيف" الذي يسعى الى الخلاص المرة تلو الأخرى. وذلك لا لأعذبه بل لأقول ان الإبداع او الخلق ليس عملية فكرية هينة بل عملية جسدية فيها معاناة وفيها تحمل وأيضاً أنا هنا لا أستدر الشفقة بل أقول إننا صامدون وأن حلمنا هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تساعدنا على عملية الابداع. الفيلم أحسبه وقفة تأمل والعطل الذي أصاب سيارة المخرج يراد منه أن صاحبها المخرج هو نفسه ربما في حاجة الى وقفة للتأمل. او انه اختار فعلاً هذه الوقفة وهذا لا نعرفه ولكن الوقفة جاءت للسؤال: كيف نواصل هذا الكفاح؟ كيف نواصل التعبير عن أنفسنا أمام كل المصاعب؟ أنا دائماً لدي هاجس فيلمي الأول "ظل الأرض" الذي يتحدث عن مجموعة في الجنوب التونسي تتصارع مع الطبيعة، تقف أمام الأحداث والإجراءات الإدارية والنظم والقوانين وغيرها لتعبر عن هويتها وشخصيتها وتبقى صامدة حتى النهاية. كيف يمكن لنا أن نواصل العمل لا فقط أمام المشكلات المادية والإنتاجية بل أيضاً أمام مشكلة حرية التعبير وسوء التوزيع وإزاء الواقع السياسي القائم؟ كل يوم هناك موتى في فلسطين والعراق مثلاً وتضحيات يقدمها بعض الناس كي يعبروا عن شيء. نحن لا نريد أن نصل الى هذه المرحلة كي نعبر عما يمكن أن نعطيه، يمكن لكل فرد في بلداننا أن يعطي للآخر ويكتشفه ويهون عليه مصاعبه اليومية. هذا العطاء غير المحقق ثمنه صراع يومي احسبه هدراً للجهد، وهذا الهدر هو الذي يضايقني، لا الخوف من الموت او الشيخوخة... فالمرء لديه حياة قصيرة والمأساة هي في أن يقضي هذه الحياة في الصراع لأجل تقديم شيء ليسمعه الآخر وليراه او ليفيده. الحلاج والنفري أنت وضعت بطلك أمام امتحان قاس لا يستطيع أحد تحمله لماذا؟ - لكنه صمد ووصل الى هدفه وأخرج فيلمه. هذا في الفيلم لكن على صعيد الواقع الأمر يختلف أليس كذلك؟ - كان واقعاً قاسياً لكنه جميل فعلى رغم القسوة التي تتحدث عنها فإنه كان يواصل العمل في فيلمه. لكنه كان قلقاً بدليل أن جازية زازية كما تلفظ في المغرب العربي كانت الملاذ والأمل الذي يجلب له الطمأنينة عبر استحضارها في الحلم او عبر المشاهد القصيرة التي التقطها لها البطل في طريقه الى استطلاع أماكن التصوير؟ - نحن نعطيه فرصة ليصور فيلماً عن جازية ونعطيه المجال ليعيش هذا الحلم من دون كبت. هذا العنف الداخلي هو تعبير ليس عن واقع قاس بل عن واقع مرير لعدم إمكانية إيصال ما ترغب في ايصاله. أنت تريد أن تقول لي أشياء وأنا أمنعك من ذلك وهذا ينطوي على المرارة. ولتبسيط المسائل أقول ان الفيلم عن مخرج تتعطل سيارته لدى استطلاعه لأماكن التصوير في الصحراء فيرى نفسه في إطار وديكور فيلمه ويبدأ الحلم ويعيش ويعاني ويدخل في مونولوغ عبر استذكار نصوص للحلاج والنفري. ألم تشعر بأن الرهان صعب على الجمهور في هذا الفيلم الذي صور كل مشاهده تقريباً في الصحراء وبإيقاع بطيء يصل حدود الضجر؟ وهل توافق على ان الفيلم "نخبوي" إذا جاز هذا الوصف؟ - أقول للمرة الأولى إنني أحب الجمهور واحترمه لكن هذا الفيلم كان تحدياً لذاتي وأردت إيصاله للأصدقاء. والمشاهد يعز علي وآمل أن يتمكن من رؤيته في التلفزيون لأن توزيع هذا الفيلم او غيره حتى التجاري منه لا يصل الى الجمهور وليس له سوق حقيقية لذلك على الأقل وفي ظل هذه الحقيقة، على المرء أن يكون صادقاً مع نفسه ويخرج شيئاً جميلاً. أحياناً تبدو مجدية مقولة "الفن للفن". جميل أن يحاول الإنسان أن يعطي المتفرج مشهداً يمكن أن يؤثر فيه ويدعو الى التفكير. المتفرج للأسف غير مضمون مادياً ومسألة أن أقول إن أملي أن اعمل فيلماً يصل الى الجمهور باتت محيرة. فقد عملت ولكن الفيلم وصل من طريق التلفزيون. فيلمي "مجنون ليلى" كان يمكن رؤيته بصورة أوسع في العالم العربي لكنه لم ير النور سوى في المغرب العربي. كيف تغلبت على عقبة التمويل في هذا الفيلم؟ - تم إنتاج الفيلم بأموالي الشخصية فتراكمت عليّ ديون كثيرة وعلى رغم انه كانت هناك مساعدات خارجية ثم شاركني منتجين ألمان. مقاومة ما الذي يريده الطيب الوحيشي من السينما؟ - الأفضل أن تقول ما الذي تريده السينما من الطيب الوحيشي. اختيارنا للسينما فرض نفسه بعد كل هذه السنوات من الهواجس والممارسة غير المستمرة إلا في الحلم. في السينما نستطيع مواصلة الحلم، مواصلة المطالبة بالحرية، التمكن من وسيلة تعبير لنعطي من خلاله ما نملك ثمة أمنية للعطاء لكن محدودة دائماً لا تنفذ مثلما نريد، والجميل أن السينما تجمع بين كل الأشياء التي حرمنا منها، فأنا كنت أتمنى أن أكون رساماً او موسيقياً ووجدت أن السينما تعطيني فرصة كي تتناغم كل هذه العناصر لأنني مؤمن بموسيقى الصورة، الموسيقى التي ربما تجدها في كأس أو وجه فتاة جميلة، ودوري هو أن أوافق وأوازن بين العناصر وقد أقول إنني محظوظ لأنني سافرت وتنقلت وعشت في أماكن مختلفة ومررت بتجارب عدة. أحبطت أحياناً كما في مشروع فيلم "ليلة أفريقية" ما دفعني لإنتاج فيلم "رقصة الريح". لست ثرياً لكن كان هناك نوع من التحدي واخترت شويخ كي أتقاسم معه هذه التجربة من دون التماهي معه. وسط هيمنة قيم الاستهلاك وثقافة الصورة المبتذلة، كيف للسينمائي أن يقاوم وأي مستقبل ينتظر السينما؟ - هذا هو بالضبط سؤال الفيلم: كيف نستطيع الصمود أمام كل هذه العراقيل؟ واستكمالاً لسؤال آخر طرحته حول نخبوية الفيلم أقول التوزيع العربي للفيلم السينمائي كرس السينما عموماً كفن نخبوي وأصبحت حظوظ الفيلم محصورة في البث التلفزيوني. الفيلم العربي لا يصل الى الجمهور بل يشاهده فقط جمهور المهرجانات وبعض المحظوظين والأصدقاء وأحياناً في الغرب. ولأن الحال هي كذلك، فإن الفيلم العربي نخبوي عموماً بصرف النظر عن جودته او رداءته، إذ لم يبق أمامه سوى التلفزيون. والمزاحمة هنا صعبة وتبقى رهينة لشركات الإنتاج وكذلك رهينة موقف هذا النظام أو ذاك ورهينة المزاجية الشخصية وحتى إذا كان المخرج محظوظاً وعرض فيلمه في التلفزيون، فسيعرض بشروط مجحفة وباستغلال. وعلى رغم مصاعب الإنتاج فإن ذلك لا يشكل مشكلة، بقدر ما يشكل التوزيع مشكلة فالمخرج لا يستطيع التغلب على مشكلة سوء التوزيع، لكن علينا أن نواصل العمل حتى نفرض رأياً آخر، ويمكن للمتفرج أن يرى شيئاً جاداً غير ما يراه، لكن الرؤية سياسية لا تسمح للمتفرج العربي بذلك في غياب الديموقراطية. هل تعتبر السينما فناً جمالياً بحتاً أم هي تأريخ لمرحلة وتوثيق لواقع؟ - على رغم اهتمامي بالجمالية انا لا أؤمن بالجمالية البحتة، فالجمالية، في حد ذاتها هي عصارة تجربة ومعايشة ومعاينة وتغذية، يمكن أن تكون جميلة او رديئة ويمكن للجمالية أن تكون وسيلة لمحاربة الرداءة وهذا افضل شيء يمكن أن نقاوم به ما يمكن أن يتعرض له كل العالم العربي وكل العالم: أنت تراني كإرهابي وأنا أريد أن أقول لك أنا إنسان وهذا هو التأثير الذي ننشده في أفلامنا. وإذا كان الآخر لديه فكرة محددة وضيقة ومكرسة فهو الخاسر لأنه لا يبالي بشيء يمكن أن أفيده به. الحوار الثقافي والفكري له مكانة مهمة شريطة المساواة والاحترام الذي يجب أن ينسحب أيضاً على تعاملنا مع النظم والمؤسسات. والمتفرج الذي قد يقول: "لم يعجبني فيلمك" أنا احترمه لكن ليقل لي ماذا يستهلك ويسمع ويرى؟ حسناً فليطالب بالجودة وأنا حتماً معه.