في كتابه "ألوان السينما السورية" الصادر ضمن سلسلة الفن السابع وزارة الثقافة، دمشق - 2003 يخوض الناقد السينمائي الفلسطيني بشار ابراهيم في حقل خبرته طويلاً كونه يعيش في سورية، وعلى صلة مباشرة بالحركة السينمائية فيها. وكان اصدر مجموعة كتب في هذا المجال، ويحاول في كتابه الجديد ان يقدم بانوراما شاملة للسينما السورية منذ ظهور اول فيلم روائي طويل "المتهم البريء" عام 1928 الذي يؤرخ انطلاقة السينما السورية، وحتى العام 2003. ولا يحتار الباحث كثيراً امام سؤال ينهض في وجه اي باحث يسعى الى دراسة السينما السورية، والمتمثل في: هل يمكن ان نقول ان ثمة "سينما سورية؟"، ام نكتفي بالقول ثمة "افلام سورية"؟ ذلك ان الباحث يرى ان ثمة سينما سورية قائمة بأفلامها، وسينمائييها، ومختلف العاملين فيها، ولكن "ليس من وجود لصناعة سينمائية سورية". والكتاب برمته يهدف الى إثبات ان ثمة سينما سورية تستمر بالتحدي والعناد والعشق، اكثر مما تستمر بالتقاليد السينمائية المعروفة، مع ما يعني مثل هذا الكلام من وجود عوائق وصعوبات كثيرة اعترضت وتعترض مسار هذه السينما، وهي عوائق مالية في الدرجة الأولى، ومن ثم تأتي التفصيلات الأخرى كالرقابة، وعزوف الجمهور عن ارتياد الصالات، ووضع الصالات البائس... الى غير ذلك من الأسباب والمعضلات التي تقف حائلاً دون تحقيق السينمائيين السوريين طموحاتهم وأحلامهم إذ ينتظرون سنوات طويلة حتى يحققوا فيلماً واحداً. لكن الباحث هنا لا يضع اللوم على "المؤسسة العامة للسينما" الجهة الوحيدة المخولة إنتاج الأفلام وتوزيعها وتسويقها والموافقة على السيناريوات المقترحة والسماح بعرضها في الصالات، اي في اختصار الجهة المشرفة على كل مراحل الفيلم السينمائي من الفكرة الى الشاشة. وإعفاء المؤسسة من هذا التردي يعزوه الباحث الى ان السينما هي احدى مفردات الفاعلية الثقافية والفكرية والإبداعية في سورية، وبالتالي ينبغي لها ان ترتبط بمجمل تفاصيل هذه الفاعلية والظروف والشروط التاريخية التي تنتج وتؤثر في طبيعة هذه الفاعلية. فالمؤسسة العامة للسينما هي قطاع عام لا يهدف الى الربح بقدر ما ينظر الى السينما كفن يمكن ان يخدم الكثير من القضايا السياسية الوطنية والقومية، كما يمكن له ان يسلط الضوء على هموم الإنسان وآماله وآلامه بعيداً من الرغبة في إنجاز تراكم كمي خال من هذه التصورات والهواجس. حديث الباحث عن بدايات السينما السورية يقوده الى التقاط اوجه الشبه بينها وبين السينما المصرية، فالسياق التاريخي متشابه مع الإشارة الى ان السينما المصرية تفوقت على مثيلتها السورية، بأشواط، ان لجهة الكم او تالياً لجهة النوع، وفي الوقت الذي يركز فيه الباحث على سينما القطاع العام في سورية، فإنه لا يغفل من جهة اخرى الحديث عن الظروف الصعبة التي مرت بها سينما القطاع الخاص التي كانت سائدة حتى عام 1963 عندما صدر المرسوم التشريعي القاضي بإنشاء المؤسسة العامة للسينما التي اصبحت العمود الفقري للقطاع العام في مجال الإنتاج السينمائي في سورية، واحتكرت لنفسها من ثم تفاصيل العملية السينمائية في البلد، وتحملت عبء النهوض بالإنتاج السينمائي السوري، والانتقال به من المغامرة الفردية والمحاولات الخاصة المتناثرة الى مرحلة التأسيس لصناعة السينما. ويلاحظ الباحث هنا ان الخط البياني الإنتاجي لسينما القطاع العام تأثر بكثير من الظروف المحلية، والإقليمية وبأحداثها وتفاعلاتها وتطوراتها. فعندما يمر البلد في حال من الصراع والتوتر تتراجع السينما كما غيرها من الأنساق الإبداعية لمصلحة الراهن السياسي او الأمني او الاقتصادي. وعندما يعيش البلد حالاً من الازدهار والانتعاش تزدهر السينما، وعلى رغم ذلك بقيت حصيلة السينما السورية في القطاع العام قليلة، إذ لم تنتج المؤسسة العامة للسينما خلال اكثر من اربعة عقود سوى 47 فيلماً روائياً طويلاً بمعدل فيلم كل سنة، كانت بدأت بفيلم سائق الشاحنة عام 1967 للمخرج اليوغوسلافي بوشكو فوتشينيتش. وهذه الحصيلة القليلة قياساً الى السينما المصرية، مثلاً، كانت متميزة، وهو ما يؤكده الاحتفاء الذي حظيت به الأفلام السورية في المهرجانات والمحافل السينمائية العربية والعالمية. ولعل عشاق الفن السابع يذكرون جيداً افلاماً سورية حققت لدى عرضها صدى طيباً وأثارت نقاشاً واسعاً مازال يدور في المناسبات السينمائية، ومن هذه الأفلام على سبيل المثال: "المخدوعون" 1972 لتوفيق صالح، "أحلام المدينة" 1983، و"الليل" 1992 لمحمد ملص، "ليالي ابن آوى" 1990، و"رسائل شفهية" 1991، و"نسيم الروح" 1997 لعبداللطيف عبدالحميد، "نجوم النهار" 1988 لأسامة محمد، "الفهد" 1972، و"الكومبارس" 1993 لنبيل المالح، "وقائع العام المقبل" 1985 لسمير ذكرى... وغيرها من الأفلام التي نالت استحسان الجمهور والنقاد على حد سواء وقطفت الكثير من الجوائز. وهذه الحصيلة القليلة لم تقتصر على القطاع العام، بل ان القطاع الخاص - الذي يفترض فيه انه ينظر الى السينما وسيلة للربح - لم ينتج، بدوره، طوال الفترة الممتدة من عام 1928 تاريخ ظهور اول فيلم سينمائي سوري، وحتى عام 1967 تاريخ ظهور اول فيلم للقطاع العام، سوى 17 فيلماً، ومنذ هذا التاريخ الأخير وحتى بداية الألفية الثالثة لم ينتج هذا القطاع سوى 85 فيلماً، في حين أنتج القطاع الخاص في مصر في مثل هذه الفترة اكثر من 3000 فيلم روائي طويل، وهذا يعني بلغة الأرقام ان البون شاسع بين السينما في البلدين. وتنبغي الإشارة هنا الى ان معظم انتاج القطاع العام السوري تميز بأنه شكل قطيعة مع الميلودراما والدراما المصريتين اللتين تأثرت بهما السينما العربية. فقد حاولت "السينما السورية الجديدة" الخوض في غمار مهمة بناء علاقة مغايرة مع الواقع الموضوعي الذي يعيشه افراد المجتمع السوري، فامتازت هذه السينما بمحاولة بناء علاقة صادقة مع الواقع اليومي ومع الحياة، كما امتلأت بأسئلة القلق والتفكير في الذات والمحيط. وبرزت نبرة الحنين من خلال الاستذكار، والعودة الى رحم البيئة الأولى، والغوص في إعادة نبش ذاكرة الطفولة... وهكذا برز تيار في السينما السورية يدعى "سينما المؤلف" التي تحقق الرؤية الذاتية والوجدانية للمخرج في معالجة القضية المطروحة في الفيلم. ففي هذه السينما يكون الفيلم منتمياً الى المخرج/ المؤلف من اوله الى آخره. وقد ظهر هذا التيار تيار سينما المؤلف نتيجة عوامل عدة، وفق شرح الباحث، منها رغبة المخرج في التعبير عن ذاته، وأفكاره بحرية. وبسبب ندرة النصوص المهيأة للانتاج السينمائي، وعدم وجود كتابة سينمائية حقيقية، ورغبة المخرج في تلافي المنازعات التي تحدث عادة مع كاتب السيناريو او صاحب العمل الأدبي، وظهرت تحت هذا العنوان أفلام سينمائية جميلة ومتميزة تعد تحفاً فنية في تاريخ السينما العربية. ولئن تعطي هذه السينما المخرج حرية الحركة والتعبير من دون قيود عما يجول في داخله لكنها ومن ناحية أخرى، كما يعتقد المؤلف مستنداً الى رأي للناقد السينمائي محمد الأحمد، "تقف هذه السينما دائماً على حافة التحدي بين النجاح الكبير والإخفاق الكبير من دون حلول وسط في معظم الأحيان". والملاحظة البارزة في سينما القطاع العام السوري هي ان هذه السينما لم تقتبس أياً من الأعمال الأدبية العالمية مهما علت قيمته ولا يسجل تاريخ السينما السورية أنها قامت بإعادة صوغ اي فيلم عالمي سوى فيلم "السيد التقدمي" الذي اقتبسه نبيل المالح عن قصة "الحقيقة الكاملة" لموريس ويست التي كانت حولت الى فيلم، على رغم اعتياد السينما العالمية، وحتى المصرية، على الاقتباس من أعمال أدبية عالمية أو إعادة انتاج افلام سبق انتاجها. بيد أن السينما السورية، وبدلاً من ذلك، سعت الى الانخراط في عمق الواقع السوري، ونهلت من همومه وتناقضاته، واهتمت بهذا الواقع ذي الخصوصية المحددة. ولكن، هناك أفلام قليلة استقت مادتها من قصص وروايات سورية وعربية كما حدث مع ثلاثية "العار" المقتبسة عن قصص لفاتح المدرس، واقتبس بعض أعمال حنا مينه لتتحول الى أفلام كما في فيلم "اليازرلي" لقيس الزبيدي المأخوذ عن قصة "على الأكياس"، كذلك فيلم "بقايا صور"، وفيلم "آه يا بحر" عن رواية "حكاية بحار"، و"الشمس في يوم غائم" عن رواية بالعنوان ذاته، بينما اتكأ فيلم "حبيبتي يا حب التوت" على قصة لأحمد داود، و"القلعة الخامسة" اعتمد على قصة لفاضل العزاوي، و"الأبطال يولدون مرتين" مقتبس من قصة لعلي زين العابدين الحسني، وتحولت إحدى قصص صبري موسى الى فيلم "المصيدة"، وتحولت رواية "معراج الموت" لممدوح عزام الى فيلم "اللجاة"، ورواية "الفهد" لحيدر حيدر الى فيلم بالعنوان ذاته، وتحولت رواية "ما تبقى لكم" لغسان كنفاني الى فيلم "السكين"، ورواية "رجال في الشمس" أيضاً لكنفاني الى فيلم بالعنوان ذاته، وهناك عمل مسرحي واحد هو "مغامرة رأس المملوك جابر" لسعدالله ونوس تحولت الى فيلم "المغامرة"، وهذا يعني أن التيار الأقوى في السينما السورية هو تيار "سينما المؤلف" الذي يتولى فيه المخرج كتابة السيناريو. ويقف الباحث عند مفهوم النجم، ومفهوم البطل في السينما السورية. فبعد أن يعقد الباحث مقارنة بين المفهومين، ويركز على آلية صناعة النجم في السينما المصرية التي اعتبرت ان النجم هو السبيل الى الربح، يصل الى استنتاج مفاده أن السينما السورية في القطاع العام لم تهتم أبداً بصورة البطل الوسيم أو النجمة الفاتنة، فمنذ الفيلم الأول في هذا القطاع "سائق الشاحنة" ظهرت الصورة الأكثر واقعية للنجم السينمائي، إذ ستنتقل صورة النجم الثري، الوسيم، العاشق، وفتى الأحلام الى صورة سائق الشاحنة، والفلاح، والفدائي، والطبيب، والمدرس، والجندي، والنحات، وعامل المطحنة، والبحار، والموظف، والكاتب وما يشبه ذلك من التنويعات التي يغتني بها الواقع الحياتي. وتأسيساً على هذا الفهم لم تهتم سينما القطاع العام بصناعة النجم السينمائي بل غالباً ما بدا أن الموضوع هو الذي يحدد أياً من الفنانين ينبغي الاستعانة به. وأكثر من ذلك، لجأت الى الاستعانة بوجوه جديدة أو غير معروفة، ولم تحاول استغلال وسامة الفنانين الذين بدوا نجوماً في سينما القطاع الخاص كما هي الحال مع المخرج عبداللطيف عبدالحميد الذي أسند دور البطولة لتيسير ادريس في فيلمه "صعود المطر"، ولفايز قزق في فيلمه "رسائل شفهية"، وهما لم يكونا نجوماً قط، كما استعانت السينما السورية بالأطفال في ادوار بهرت المشاهدين أحلام المدينة، قمران وزيتونة.... فهذه السينما، وكما يرى الباحث، لم تأبه بمسألة الاستحواذ على القطاع الأوسع من المتلقين الذين صنعتهم سينما القطاع الخاص التجارية، ولم ترضخ لابتزاز متطلباتهم في رؤية نجومهم المفضلين على الشاشة الفضية، بل بدت ذاهبة في اتجاه ما تريد قوله حتى لو وضعها ذلك أمام اتهامها بالنخبوية، أو أمام مهمة إعادة تشكيل الذائقة الجمالية للمتلقين. استنتاجات وملاحظات واستخلاصات كثيرة يختصرها بشار ابراهيم في هذا الكتاب عبر رصده لمسيرة السينما السورية. فإضافة الى ما سبق فهو يبحث كذلك في ما يسميه "الانثروبولوجيا، والإثنوغرافيا في السينما السورية"، كذلك يقف عند موضوعة البيئة والمكان في السينما السورية وعلاقة المخرجين السوريين بمرابع الطفولة، والصبا، وأمكنة عشقهم الأولى. ويرصد في الختام طبيعة العلاقات الاجتماعية كما تجلت في السينما السورية، وهو يسعى من وراء كل ذلك الى التعريف بالسينما السورية، والوقوف عند أهم محطاتها، وتسليط الضوء على مخرجيها، ومبدعيها، وتبيان مواطن الجمال، ومواضع الخلل في هذه السينما مستعيناً بكم من المراجع والمصادر، ومعتمداً على خبرته الشخصية وذائقته الجمالية في مجال الفن السابع ليصنع من خلال هذا الجهد مشواراً يوضح ألوان السينما السورية بكل تنويعاتها، وأطيافها، بهمومها، وخيباتها، والأهم بعشاقها الذين لا يملون من الانتظار ومن الأحلام. فالسينما في النهاية، حلم جميل، ووهم لذيذ يحرضان على الأمل.