لا يحتاج سعد يكن إلى أن يضع توقيعه الخاص في أسفل لوحته، فوجوهه وأيقوناته وخطوطه وألوانه سرعان ما تشي بأعماله، فهذا التشكيلي الحلبي، اشتق لنفسه أسلوباً تعبيرياً مبتكراً، يتدرّج بين "الموتيف" المنفلت من الأطر التقليدية للرسم، ودقة الأيقونة. وهو منذ بداياته المبكرة في مطلع السبعينات، أعلن عن حضور لافت، يوازي تجارب مجايليه مثل لؤي كيالي ووحيد مغاربة. وكان معرضه الفردي الأول "أسود وأبيض" في صالة المتحف الوطني في حلب1970، مخاضاً تصويرياً خاصاً، ظل يرافق تجربته اللونية إلى اليوم. وتتمثل خصوصية أعمال سعد يكن، في اشتغالاته النوعية على البورتريه، كأن يحتل الوجه مركز ثقل اللوحة وبؤرتها التعبيرية، خصوصاً من جهة تحوير الملامح في شكل الوجه، لينداح لاحقاً على بقية أعضاء الجسد "أطراف أصابع اليدين والقدمين". هكذا أسس سعد يكن على مدار تجربته كائناً بشرياً أعزل وخاسراً في معركة غير متكافئة تحت وطأة قهر تاريخي طويل. ووجد هذا الكائن نفسه في نهاية المطاف مقيداً ويائساً إلى آخر شهقة في روحه، من دون أن يعلو صوته بالصراخ أو الاحتجاج المعلن، ومكتفياً بآلامه المكتومة. ويلاحظ أن تجربة هذا التشكيلي المتفرد، ظلت تعزز مفرداتها اللونية بتمهل، تحت وطأة الأزرق في كل تدرجاته، والأحمر، وقبلهما الأسود، بضربة ريشة نزقة، تأتي كترجيع لأبعاد معرفية. لكن نظرة متأملة الى تطور أعمال سعد يكن الأخيرة، تكشف تحولاً واضحاً في رؤيته، خصوصاً في تخفيف صرامة الخط، والتقشف اللوني، وكأنه فقد الأمل من اليأس، فأراد أن يفتح كوة في الجدار المظلم بغية إيجاد مسرب لاحتداماته التعبيرية، في ذلك النفق الطويل الذي وجد نفسه أسيراً بين جدرانه الكتيمة. هكذا أخذ يتجوّل في المساحات المتاخمة للعزلة لالتقاط رنين بشري مختلف، فحين نسترجع "سيرة المقهى" في تجاربه المبكرة، نرى إلى تلك العدسة المكبرة وهي تضيء عزلة بشر وكراسٍ بين جدران صمّاء، في أقصى حالات الوحشة والتوحد والقهر الإنساني. ثم وهو يتجه إلى ملحمة الجموع، في اكتشاف عرى صداقة مع "جلجامش" في رحلته الأسطورية بحثاً عن "عشبة الخلود"، يقول لونياً أن لا عزاء للفرد بالبقاء، من دون حضور الآخر. وهكذا أخذت تتجاور أرواح بشرية في فضاء واحد. هذا ما نجده جلياً في رصده لموضوعة "فضاءات الطرب في حناجر حلب"، أو خلال اشتغاله على الجسد المشتعل للراقصة في الملهى الليلي، أو للبهاء الصوفي المتجسد في بورتريه "صبري مدلل" المغني الحلبي الشهير، في خطوط دورانية أشبه برقصة الدراويش. في معرضه الجديد الذي استضافه "مرسم فاتح المدرس" في دمشق، يتخفف سعد يكن من وطأة الألوان الصارخة والخطوط الصارمة لبورتريهاته، نحو أفق أكثر رحابة، على رغم أن موضوعة "الجدار" التي كانت منطلقاً لرسومه الجديدة، لا توحي بفضاء مفتوح، لكنه أراد مرة أخرى أن يخلخل ثبات الجدار ويعري ما وراءه، لنكتشف حياة موارة لبشر في حالات مختلفة، ترنو إلى فضاء بعيد، أقل سواداً من سطح الجدار، وإن لم تتخلص نهائياً من عزلتها، وهو إذ يقود شخوصه نحو حكائية ما، فإنما يرغب بإضفاء روح خاصة على الدمار الذي أحاق بهؤلاء البشر المعلقين في لوحات أخرى بملاقط الغسيل، مما يجعل متلقي لوحته في حيرة اكتشاف الأصل من الصورة، سواء تلك التي تتجسد في تفاصيل الحياة اليومية أو تلك التي تبثها الصحون اللاقطة للفضائيات كما في لوحته "الساعة 12 ليلاً"، في مفترق زمني ملتبس بين العتمة والنور. جداريات سعد يكن الأخيرة، شهادة على زمن يحتضر، وبشر لا ملجأ لهم سوى ذواتهم القلقة، وقبل كل ذلك، هي مقترح بصري لمونودراما تشكيلية فوق خشبة مفترضة أو جدار، كما لو أنه سيتهاوى بعد قليل.