في جو طقوسي، أضيئت فيه الشموع، وعلى أنغام التراتيل، والموسيقى الكنسية التي أضفت مناخاً مهيباً في فضاء الصالة، افتتح بغاليري "السيد" بدمشق معرض سعد يكن: "نحو أيقونة حلبية حديثة". عنوان المعرض، ولوحاته تحيلنا الى مجموعة من الاسئلة. أولاً: لماذا أيقونة حلبية؟! وثانياً: ما وجه الحداثة في هذه الأيقونية؟ لم لماذا يشتغل سعد يكن على هذه الموضوعات الدينية، سيما وان معرضه السابق في العام الماضي كان حول: "أسطورة جلجامش، واسئلة الموت والسعادة والحب؟ قبل الإجابة على الاسئلة السابقة، لا بد من الإشارة الى التقاطع البارز بين أعمال المعرضين، ليس فقط، من زاوية مصادر الرمز التي يستقي منها الفنان موضوعاته: الاسطورة والقصص الدينية، وإنما من حيث التأليف ايضاً، والتكوينات المستخدمة، وطريقة المعالجة التقنية، واللونية التي يطغى عليها تدرّجات الأزرق، ومشتقات الاحمر القاني بدلالاته الرمزية المتعددة. إذا كان الرمز وسيلة من وسائل التعبير الفنية عند سعد يكن، فانه في معرضه السابق، كما في معرضه الحالي قدّم لنا ما تفتّق عنه خياله الجامح من صياغات بصرية، بروح تعبيرية، تشخيصية لتسليط الضوء على قضايا انسانية كبرى لم تنته عبر التاريخ. انها قصص الماضي، وقصص الحاضر تروي بؤس الانسان وضياعه، وفجائعه، وفرحه، وخلاصه... في أعماله عن ملحمة "جلجامش" الاسطورية التي صاغها قبله فراس سواح على شكل نصوص أدبية، وضعنا يكن على تخوم الجحيم تارة، وبوابات المطهر تارة اخرى، ثم راح يسبح بنا ومعنا في فراديس الكون بحثاً مع جلجامش عن نبتة الخلود الضائعة، لعلنا نجدها ونستريح من هذا القلق المتعب، الذي يقضّ مضاجعنا عبر آلاف السنين. وفي أعماله الحالية، يبحر بنا على متن تصوراته البصرية الجديدة لوجه يسوع المسيح كما يتخيله في رحلة آلامه نحو الجلجلة. يتكىء سعد على تأويله الخاص لآيات العهدين القديم والجديد، لذلك يقدّم وجهاً ليسوع مختلفاً، ومتمايزاً عما نراه في الايقونة التقليدية المعروفة الحلبية أو غيرها. حيث نرى وجه المسيح، وجهاً متطاولاً، مشدوداً، يقطر منه، هذا الألم الملحمي، الذي يعبّر عن مأساة الانسان الأبدية، وعذاباته في رحلته نحو القيامة، والصعود والخلاص. إذاً، ثمة بحث جديد يحاوله يكن، مستفيداً من المخزون المعنوي لرمز المسيح، وطاقته الدلالية، ليضيف اليه بعداً رمزياً معاصراً يعكس آلامنا نحن التي ترتبط بشكل أو بآخر بتجربة الفنان الراهنة ومعاناته الشخصية. ان سعداً يوظف الرمز بهذا المعنى، ليطرح موقفه من مسألة الوجود، والبحث الانساني الدائم عن الخلاص، والسكينة والسلام في عالم يضجّ بالصراعات العنيفة والقسوة التي لا ترحم. ان الدلالات التعبيرية التي ذهبنا اليها تظهر على سبيل المثال في لوحة "قبلة يهوذا" من خلال التناقض التعبيري واللوني بين وجهي المسيح ويهوذا. فوجه هذا الاخير أسود، فيما عينه الحمراء الجاحظة تشي بالخبث والخديعة والخيانة وتشكّل بؤرة تركيز وجذب للمتلقي، بينما تظهر علامات الألم والتسامح والطيبة على وجه المسيح - الضحية. وفي لوحة "يسوع أمام الحكام"، نرى في أسفل اللوحة وجه المسيح على صليبه المطلي باللون الذهبي المقدّس، فيما عشرات الأرجل المقيّدة في أعلى اللوحة تشي بحالات العذاب والقمع التي تعانيها البشرية في كل الأزمنة، وكذا، نرى في لوحة "القيامة والصعود" المسيح وكأنه يطير بهالة مقدسة نحو الأفق، فيما عيون تلاميذه شاخصة تنظر من أسفل اللوحة في حالة تضرّع ودهشة. إن ما ذكرناه في الأمثلة السابقة، ينسحب على بقية اللوحات التي يطلّ منها وجه المسيح، ووجوه الشخصيات الاخرى، ضمن تكوينات حاشدة، لا تترك مجالاً للفراغ لان يلتقط أنفاسه. اذا كان سعد يستعير من الماضي شخوصه، فان روح الحداثة في لوحته تكمن في استفادته القصوى من تقنيات العصر وأوراقه وأحباره وألوانه التي مكنته من اعادة صياغة المشهد الايقوني بروح جديدة. وكأنه باستخدامه لهذه الزيوت والألوان والأحبار يردم الهوة الموحشة بين الماضي والحاضر، وهو بين هذا وذاك يعيد طرح الاسئلة نفسها عن صراع الانسان وبحثه المزمن - وربما الخائب - عن مغزى العذاب والألم والتضحية والشجاعة والحب والسلام. أليست هذه هي اسئلة المخلّص، وبالتالي أسئلة الفن الدائمة؟! يستخدم يكن على مستوى تأليف اللوحة خطوطاً واضحة، محددة، وضربات سريعة منفعلة لفرشاته، تشي بحالاته الداخلية المتوترة اثناء الشغل، أما تكويناته، فهي متينة وموزعة على مساحات واسعة. تنسجم مع الطابع الملحمي الذي أراده ايقاعاً سيمفونياً يحكي قلق الانسان وخوفه وآلامه من هذا اللامرئي القابع خلف الحجب.