(1) تعريف بالعمل: * العمل الفني: لوحة تشكيلية بعنوان «الخيل» * الفنّان: محمد ابراهيم الرباط * التقنية والخامات: متعدّدة، ألوان اكريليك، أحبار ومعاجين، طباعة وغيرها * المقاس: 80×80 سم * وصف العمل: أرضية مربّعة الشكل، تحتوي على عناصر العمل، أبرزها شكل «فرس» عربيّة ملوّنة بالاكريليك والأحبار، تتراوح بين الأسود والرمادي المُبيض، إلى البُنّي بمختلف درجاته، حتى الأصفر الذّهبي والنّاري، تكويناتها و تشكيلاتها اللّونية مرقوشة بالحروف العربية. من خلف انحناء عنق العنصر الرئيسي (الفرس) تظهر مساحة مربعة مُشّعة البياض، تحمل نقوشًا بارزة (emboss) من المعاجين. خلفيّة العمل ما بين الرمادي والأسود فقط، توحي لجدار تتخلّله فتحات ونوافذ تُراثية من مختلف الأشكال والأحجام، مُزيّنة ومرقوشة بالحروف العربية. في الزاوية العلوية من اليسار، مساحة مستطيلة رمادية، تتميّز عن محيطها بكثافة درجة اللّون، يظهر وسطها شكل رأس فرس. في الزاوية السفلية من اليسار، تظهر مجموعة من الخطوط والمساحات الرمادية، تحيط بما يشبه «الحَدَقَة» السوداء، رأس الفرس يتّجه مباشرة نحوها، يظهر فيها رقعة من بساط تراثي. الجزء الرمادي، يحمل أحرفا عربية وترقيمات تُشكّل في أحد الجوانب ملامح وجه إنسان (عينان وفم). الألوان هادئة محدودة، جميعها في مدى الألوان الدّافئة، اللّون الأسود يُضفي نوعا من الغموض الدّافئ والمُحفّز. تتوازن الألوان مع الرمادي والأسود الذي ينجح بإضفاء مسحة من الفخامة والرزانة والعمق في جميع أرجاء العمل تليق بمقام الفرس العربية. المنظور يضمُر لصالح بروز التّشكيلات والكُتل اللّونية. الأسلوب مزيج من التجريدية والرمزية، تداخلت مع الحروفية، لا أجد حرجًا في تسميته ب»التعبيرية الحروفية». الموتيف (motif) السائد هو الحرف العربي، لكن دون نمطية (pattern) أو زخرفية، بل يتنوّع ويتغيّر متّخذا أشكالا لا حصر لها، فيدخل بنجاح في تكوين عناصر العمل، وتنوّع تشكيلاته اللّونية، إلى درجة «الأيقنة» في العنصر الرّئيسي (الفرس) * الموضوع (theme): «الأنا» أو «النحن» الحضارية، بأصالتها وبعدها التراثي ومُكوّناتها الوجدانية وإشعاعاتها الإنسانية. * ملاحظة: العمل حائز على الجائزة الأولى في مسابقة سوق عكاظ 2010 / العلاقة بين الفن التشكيلي والشعر، القصيدة الملهمة للعمل قصيدة في وصف الخيل للشاعر سعيد النعيمي. (2) قراءة وتعليق: الحرف في اللغة صوت، حين يُكتب يأخذ شكلا، الإنسان وجد أصل صوت الحرف في الأصوات التي يسمعها من حوله، كما أن شكل الحرف يبدو عاكسًا لصورة رمزية علقت وتبلورت في ذهن الإنسان، ذات ارتباط وثيق بصوت الحرف ومعناه، عبر الزمن، تبدأ عمليّة التجريد، تجريد صوت الحرف عن مصدره الطبيعي، وكذلك تجريد شكله عن صورته ومعناه، وهكذا يبتعد الصوت الناتج من نطق الحرف، وشكله الكتابي عن أصلهما الطّبيعيّين، إلى أن يتحوّلا لرموز تجريدية يصعب أو يستحيل تلمّس أو اكتشاف أصولهما، اللغة العربية، بنعمة كونها لغة القرآن، اكتسبت حكمتين ربانيتين؛ الأولى: حافظت على نفسها من الضياع أو الموت كما حصل لمعظم اللغات القديمة، الثانية: كثيرًا ما نهملها، بل نادرا ما يتحدّث أحد عنها، وهي أن القرآن الكريم، أوقف عمليّة التجريد لصوت الحرف وشكله الكتابي، ثَبّتهما على حالهما، كيف كانا حين تنزّل بهما، فظل الصوت الناجم عن نطق الحرف أقرب لمصدره (البدائي) الطبيعي الجميل، وظلّ شكله ملتصقًا بصورته التي أُقتبس منها، المرتبطة بمعناه، هذا الصوت المرتبط بمصدره الملتصق بالطبيعة، المشبع بالايقاع والموسيقى، أصبح شعرا، أمّا الشكل، فأنتج فن الخط، وصار أبًا للزخرفة والرّقش، فالعربي كما اللغة العربية مزيجٌ من الشعر والتشكيلات اللّونية. كما نرى، رسم الحروف في العربية، كنز يزخر بإمكانيات فنيّة هائلة طبيعية، ما زالت تنتظر فنانينا لتوظيفها، كما نرى أن التجريد يقوم على الشّكل واللّون، أما رسم الحرف العربي، فيقوم على الشكل واللون والصوت والمعنى، ما يفرضُ صعوباتٍ جمّة على الفنّان العربي، فهو مطالبٌ بالغوص إلى عمق الحرف، شكلا و لونًا ومعنًى وصوتًا، ما نجح به هنا الفنّان محمد الرباط، إذ من أجسام الحروف شكّل جسم الفرسِ الأيقونة، ومن ألوانها لوّنها، ومن أصواتها تَشكّلَ صهيلُها الذي تكاد تسمعه، ومن ايقاعاتها جعل النّاظر يحس بإيقاع الشعر ونفحتِه الوجدانية، على عكس ما نرى من معظم فنانينا الذين طرقوا الحروفية، إذ نجدهم يرشقون عناصر لوحاتهم الجاهزة بالحرف العربي، فيأتي مضافًا، زائدًا، في أحسن الأحوال مُزَرْكِشا للعناصر ليس أكثر، فيظلّ العمل سطحيًا تائهًا، مُتورّطًا في نمطية (pattern) الحرف الذي يُصبح «موتيف» (motif) يتكرّر. رغم أن العمل الفني سُميّ «الخيل»، فنحن إذا استثنينا شبح رأس الحصان الذي يظهر معلّقًا على الجدار الخلفية، لا نرى سوى هذه الفرس، الأنثى الأيقونة، تستحوذ على معظم مساحة اللّوحة! فلماذا يا ترى هي فرس أنثى؟ في الصحراء، الرّجالُ صورتها، صارمون، يمتطون الجياد يسابقون الرّيح، بسيوفهم وخناجرهم وبنادقهم، يلجون لجّة الحياة وشظفها يقطرون دمًا حتى في صباحات العيد... هُنّ في الصحراء ضدّها، هن الفرس الأصيلة، الوجه الآخر للفارس وقدرته على الفعل ، بدونها تسقط الفروسية ، وهكذا أصبحن رقرقة المياه، رطوبة النّسمات، الأخضرُ الخزامُ العرفجُ و ظلالُ النّخيل، الواحةُ والجديلةُ.. ليس أرقّ ولا أكثر حاجة لهنّ هنا، هنّ الخصبُ والحياة، الأغنية ونجومُ اللّيلِ حين تضيعُ الدروب.. أعشاش الطّيور، مهاجعها حين تشرّدها الكثبان شظايا... هن حلم الماء في الظمأ وحين تتيبّسُ العروق... هنّ القصيدُ... لا شعرَ بدونهنّ ولا نشيجَ ولا وتر... هذا ما نجح به الفنّان محمد الرباط، نجاحًا كبيرًا، اصطفت عنده أحرف اللّغة بأجسامها في ايقاع وانسياب شكّل جسدَ العنصرِ الرئيسي في العمل الفني، الذي لم يكُ إلاّ رشيقًا أيقونيًا أنثويًا على هيئة فرس، هذه الأنوثةُ طاغية الحضور، هي التي ظَهّرَت القصيدةَ وغَنّتها، فاستحوذت على كل المساحة. كما نجح الفنان في أمرين مهمين إضافيين، أولا أطفأ الخلفيّة، بأن انتزع الألوانَ منها، فتُرِكَت السّاحةُ للأيقونة تستعرض بملوكيةِ ودلالِ الفرسِ العربيّةِ الأصيلة، ثمّ ثانيًا، أضاف بُقعَ الأسودِ القويّة، ذكورية الايحاء والمعنى، محاطة بدفء الرّمادي، لتُشكّل حضنًا للأنثى الأيقونة، بل بيت القصيد، فتوازنت الألوان والتشكيلات والرّموز والمعاني. كيف نشعر بهذا التّوازن؟ في ظل وجود عنصر واحد ملوّن في العمل الفني شديد البروز والحضور، فإنك تتهيّأ لتصطدم عيناك بفراغ المساحة من حوله، تخشى المساحات السلبية الشّاسعة، لكنّك لا تجدها، لا تشعرَ بها، فالنوافذُ والفتحاتُ التّراثية، حرّكت الجدارَ الرّمادي في الخلف، شبحُ الحصانِ المعلّقِ على الجدار أضافَ شيئًا من الغموض يَستدرجُ العينَ، ثمّ تدافعت الأحرفُ العربية لتُكمل المُهِمّة، تلبسُ حلّةً رمادية، تتراقصُ أمام النّوافذ وفوق الجدار وتمتزج بها، فامتلأت المساحات السلبية، لم يبق مكان للتناقض والتّنافر، بل انسجام.. انسجام الحضن الذي يحيط بعشيقته. لابدّ أن نتطرّق لإبداع فريد توصّل له الفنان محمد الرباط، وهو ذلك (اللّوح) الحجري المربّع الأبيض المضيء من خلف وأسفل عنق الفرس، يتميّز بلونه عن باقي ألوان العمل، يشبه الألواح الحجرية التي تكتشف في الحفريات الأثرية، نُقشت عليه أشكال غريبة، وكأنّها تُشكّل شيفرة العمل، كالشيفرة التي أحاطت بالغموض حجر»الرّشيد» مثلا، أو حجر»يوشع»، إلى أن فكّت رموزها، هذه الرّموز، أشكال من حروف المسند، بعضها كما هو، والبعضُ غير الفنّانُ من شكله، بعضها يشبه الكتابة المسمارية، وأخرى تشبه بعض الأحرف في أبجديّات اللّغات الجزيرية (تدعى السّامية)، وأخرى أرقام، وثانية أحرف لاتينية، وثالثة تتكتّل معًا لتوحي بكتابة آسيوية، صينية أو ما شابهها....الخ. فما هي هذه الشيفرة؟ وكيف يمكننا فكّ رموزها؟ هل يا ترى هي النافذة الحضارية التي سَطَعت من خلالها ذاتَ يومٍ حضارتُنا، فاسْتَسقَت العالمَ على اختلاف مشاربِه من معينها؟!! أم هو تفاخرُ الحرف العربي، يصهلُ من خلال هذه الفرس الأيقونة، يزهو متبخترًا أمام أحرف كلّ اللّغات التي آلت بها الأمور، لأن تُصبحَ مُجرّد نقشٍ على حجر، بينما أحرفُ العربية ما زالت تركضُ خَببًا كالفرس على وِقْع جمال الشّعر وصهيله؟؟!! مهما كان المقصود من هذ الشيفرة فهي عبقريةُ الحضورِ، عميقةُ المعنى، مُتناهية الجمال، أخرجت العملَ من حيّز «الأنا» وضيق المكان، إلى فضاء الإنسانية الرّحب. وددتُ لو يتّسع المكان للإسهاب في الحديث عن النّار الذهبية المُنيرة، التي تصعد من قلب الفرس والحروف، لتتصاعد كأبرز عناصر العمل، أو عن رؤيتنا حول إيقاعات الصورة وأزياء مُفردات اللّغة في الشعر، وعلاقتها وقربها الشديد من الفنون التشكيلية، ومقدار بعدها عن الكتابات الأدبية كمفهوم محدّد، والحديث عن أشياء أخرى كثيرة احتوتها لوحةُ الفنان محمد الرباط، التي سجّلت برأينا قفزة نوعية لفن الحروفية في المملكة، نحو آفاق إنسانية رحبة، بل ربما تكون بحق، فاتحة ما نُصرّ على تسميته ب»التعبيرية الحروفية».