بينما تتخبط المهرجانات العربية ممزقة بين سوء التخطيط والتطبيق وبين سمو الطموحات، يدخل "أسبوع الفيلم الهنغاري" عامه الخامس والثلاثين وفي عروضه أفلام لثلاثة أجيال من المخرجين الهنغاريين، جيل يانشكو وموك وغوثار، وجيل وسط يعبر عنه بيلا تار، وجيل جديد تتعدد أسماؤه وبعضها لديها ما تفتخر به وسط أعمال من هم على سدة السينما الهنغارية. ربما لأن "أسبوع الفيلم الهنغاري" لا يطمح الى أكثر من تقديم السينما الوطنية، من خلال ما انتج خلال العام الفائت، او ربما لأن التمويل اللازم له، في بلد له ظروفه الخاصة، محسوب بالقطارة، لكن المؤكد أنه على صغر حجمه وحدوده، يجلب إليه عدداً من النقاد وممثلي المهرجانات الأجانب غير الهنغاريين. هناك وفود من بريطانيا وايطاليا والولايات المتحدة واليابان وروسيا وبولندا وسويسرا والمانيا. انطلق "أسبوع الفيلم الهنغاري" الذي يستمر حتّى 5 شباط فبراير بيوم حافل، عرض خلاله فيلم للمخرج الجديد بالاش لوث بعنوان "ليست حكاية خيالية" يدور حول فتى اسمه توبياس غيورغي بانفي كان ما يُسمى "عقب السيجارة" في قريته. ومل من هذا الوضع فهاجر الى المدينة لعل حظه فيها أفضل. هناك يجد نفسه في مسابقة تلفزيونية تطلب من المشتركين فيها تحقيق ثلاثة طلبات، كل طلب بمثابة اختبار لعزيمة المتسابق. واذ ينجح توبياس في الامتحان الأول ويلج الثاني يزداد المطلوب إنجازه صعوبة ويجد نفسه متورطاً مع حفنة من الشخصيات ذاتها تنتقل من امتحان الى آخر من دون أن ينجح في حل ألغازها. في النهاية هو الشخص الفائز بين كل المتسابقين بالفعل. لكن وكما يقول له "ملك البلاد": "انت خاسر حتى ولو فزت". الأحداث تدور في زمن عصري، وإنما ضمن تقاليد ماضية. البلد غير محدد وفيه ملك وفيه امبراطور ايضاً، انما الصراع على استحواذ السلطة والجاه هو نفسه. ليست حكاية خيالية"، بل خيالية جداً لكنها مطبّقة على معطيات واقعية تبحث في شأن المواطن العادي الذي يطلب لنفسه طموحات محقة لكنه سيبقى عاجزاً عن الوصول، لأنه من طينة أنقى من اولئك الذين وصلوا. المخرج الهنغاري ميكلوش يانشكو الذي كان يوماً أشهر مخرجي البلد الى جانب اشتفان زابو وحفنة من الأسماء، يوالي تقديم الخامة نفسها من الأفلام، إنما بضعف لا يتساوى وأعماله الملهمة في الستينات والسبعينات. منذ العام 1995 تحديداً، وكل فيلم يقدمه أشبه بنسخة من فيلم سابق. ليس فقط على مستوى الاهتمام السويدي برغمان كان لديه الاهتمام نفسه دوماً لكن سينماه بقيت محتفظة بطاقة خلابة، بل ايضاً على صعيد العناصر الجمالية للأعمال. ما تغيّر هو أن استخدام هذه العناصر أصبح من الخفة لدى يانشكو إذ ما عادت أفلامه تتقدم بها بل تتأخر. فيلمه الجديد "معركة موهاش" ركيك بعد الدقيقة الخامسة. خلال هذه الدقائق يبدأ بحصانه الدائم وهو يتقدم بطيئاً كما لو عاد من حرب خاسرة. وهو رمز لما يريد المخرج الحديث عنه: في العام 1526، أيام كانت هنغاريا مملكة واسعة الأرجاء تشمل بعض أرجاء المانيا وبولندا الحالية، الى جانب هنغاريا الحديثة، خاض الملك بيتار معركة ضارية ضد السلطان سليمان العثماني القانوني الذي كان جيشه أقل عدداً وعدة اذ جلب بيتار جنوداً ألمان وبولنديين للخدمة، لكن أكثر ذكاءً. سليمان شرذم القوّات الهنغارية والملك بيتار قضى لاحقاً حينما غرق في نهر صغير فاضت مياهه فجأة. "معركة موهاش" نتج عنها احتلال الأتراك للمجر 150 سنة، "لكننا ما زلنا مجريين" يقول بعض أبطال الفيلم بفخر. يانشكو ليس من النوع الذي يقدم على إنجاز أفلام معارك حربية، بل عليه، تبعاً لمنواله الأسلوبي الخاص، تلوين التاريخ بلمساته الشخصية ومعالجة الموضوع بعيداً من أجواء الحرب او المواقع العسكرية. وسيلته هنا هي تقديم شرطي مجري في الزمن الحالي مشهور بغبائه يستدر من المشاهدين قدراً كبيراً من الضحك، لا يدري أنه الحفيد البعيد جداً للملك بيتار لكن رجلاً ركب آلة الزمن التي ابتدعها ه.ج. ويلز اكتشف ذلك وهو يعود الى العصر الحالي ويفرض على هذا الإنسان الأقل من عادي أن يتحمّل مسؤوليته. معاً ينتقلان الى ما قبل المعركة حيث يداهمان السلطان التركي ويخيفانه مستخدمين السحر والحيلة. هذا ما ينقذ هنغاريا من الاحتلال كما يغيّر مجرى التاريخ فتصبح اللغة الهنغارية بحسب الفيلم، هي السائدة في العالم وليس الإنكليزية او الألمانية او سواهما. معالجة يانشكو لهذا التخريف كان يمكن القبول بها على أساس فانتازي لو كان تنفيذها، فنياً وتقنياً، يحقق الغاية منها. لكن الفيلم مصنوع كما لو كان يانشكو طبّاخاً في مطعم بيتزا إذ كل الأطباق متشابهة ويصبح من السهولة بمكان الاعتماد كلياً على المستقى من تجارب الأمس عوض بلورة جديدة. الهزء مما حل بهنغاريا تاريخياً، يواجهه الجد في تصوير الأتراك كما لو كانوا أعداء الى اليوم. وعن هنغاريا اليوم يأتي فيلم "خليط" لستيفن لوفي. انه اميركي من أصل مجري عاد، مثل بطله، الى الوطن الأم وحقق فيه هذا الفيلم الثالث حول شاب وأبيه يزوران هنغاريا بسبب وفاة والد الأب. حينما يرحل الأب وحيداً عائداً الى أميركا، يبقى الشاب في هنغاريا بعدما تأخر عن الطائرة ليكتشف أن عليه تدبير مبلغ 1500 دولار لشراء تذكرة أخرى هناك تذاكر بأقل لكن يبدو أن بطل الفيلم لم يعرف من يسأل. هذا الوضع يفرض عليه العمل محتالاً ونصّاباً والتعرّض للأذى كما للحب وكلاهما وجهان لعملة واحدة!، قبل أن تستوي الأمور معه ويخلص الفيلم الى نهايات سعيدة.