مسكين بول بريمر. معاناته تفوق القدرة على الاحتمال. كلف بترتيب ما يصعب ترتيبه وتسويق ما يتعذر تسويقه. لم يصدّق العراقيون انه جاء في مهمة انسانية وان هاجسه ان يصنع لهم مستقبلاً جميلاً. والشك كما التبرم والغضب من عادة العراقيين. مسكين، مهمته متعبة. بهجة اسقاط صدام لم تعمّر طويلاً. عاد الشعب العراقي الى مكوناته الاساسية. محاورة "المثلث السني" متعذرة. ارضاء الحلفاء الاكراد صعب لانه يثير غضب حلفاء واصدقاء في الداخل والخارج. يخاطب الشيعة في مجلس الحكم فيشيرون باصابعهم الى النجف. والرجل الجالس في النجف لا يستقبله، يفضل الاممالمتحدة على الولاياتالمتحدة. مهمته منهكة. الوقت ينفد. لا بد من انهاء الاحتلال وتسليم السلطة. وهنا العقدة الكبرى. مجلس الحكم غير قادر والبدائل غير واضحة. الانتخابات المبكرة مشكلة كبرى. الانتخابات المتأخرة قد تسبقها النار. ولا بد من اختصار فترة الاحتلال لتعزيز آمال الرئيس جورج بوش في تمديد اقامته في البيت الابيض. الذهاب الى الحرب أسهل من العودة منها. بخلت أرض العراق على قوات التحالف ببضعة براميل من اسلحة الدمار الشامل. اظهرت التطورات ان الاستخبارات الاميركية لم تكن مطلعة تماماً وان معلوماتها لم تكن دقيقة أو صحيحة. لكن المشكلة ليست فقط في عدم العثور على ترسانة صدام بل ايضاً في ان العراق غير ما توقعه المحافظون الجدد. فاقتلاع نظام صدام شيء وبناء نموذج ديموقراطي شيء آخر. اكتشف بريمر ان الذين يكرهون صدام لا يحبون بالضرورة اميركا. اكتشف ان تغيير المنطقة عبر النموذج الديموقراطي العراقي حلم غير واقعي. يمكن تغييرها فقط عن طريق اشعاعات الفوضى العراقية الدامية. وهذا لا يعني التغيير بل زعزعة الاستقرار وفتح الباب لانهيارات يصعب توظيفها وضبط حدودها. مهمته منهكة. العيش في العراق محفوف بالاخطار. الانتحاريون جاهزون ويبحثون عن اهداف. مقاومون من صنع محلي وانتحاريون من مصانع "القاعدة". انفجارات وكمائن. وعلى بريمر ان يظل حياً لهذا يصطحب حراسه حتى حين يغادر مكتبه الى دورة المياه. اكشتف بريمر نقصاً جديداً لديه. العربية مفتاح التفاهم ولا بد منها لإدراك المخاوف وفهم الحساسيات ومد الجسور. كل يوم يتلقى دروساً في اللغة العربية. هكذا قال البارحة. ولأنه شفاف اعترف انها لغة صعبة. وفي المركز الصحافي سأل بريمر صحافياً عن التقرير الذي يكتبه فأجابه انه عن الانتخابات. رد بريمر هذه المرة باللهجة العراقية قائلا:ً "خوش فكرة" أي انها فكرة جيدة. "خوش فكرة" ان يتعلم بريمر العربية، لكن هذه الفكرة جاءت متأخرة، فقد ظهر ان الادارة الاميركية لا تعرف العراق بتاريخه وخصائص تركيبته. و"خوش فكرة" ان تتعرف الادارة الاميركية على حقائق الشرق الاوسط قبل حقنه بأمصال الديموقراطية، إذ اننا نخشى ان يكون الشرق الاوسط الكبير مجرد عراق كبير.