حسناً فعلت الحوزة الدينية في النجف عندما استقبلت ممثل الأممالمتحدة سيرجيو فييرا ميلو الذي زارها بصحبة مستشاره غسان سلامة المرشح للحلول محله، فاذا حل كان ذلك خبراً طيباً لنا وللعراقيين. وسمع الزائران كلاماً ينضح ديموقراطية واصراراً على استقلال القرار العراقي، خصوصاً اثناء الحديث عن الدستور العتيد والمقدمات الضرورية لوضعه، حيث ركزت الحوزة على ضرورة ان يكون الفريق الذي يتصدى لهذه المهمة منتخباً مباشرة من الشعب. وفي المعلومات ان النجف رفضت عرض الطرف الأميركي ان تكون شريكة في اختيار نسبة من اعضاء الفريق، لإلحاحها على ان تكون المناسبة شروعاً فعلياً في تأسيس العراق على الديموقراطية، ورفضها مبدأ المحاصصة وحصرها بينها وبين الطرف الأميركي ممثلاً بالحاكم المعين من قبل التحالف بريمر. وكانت جريدة "الواشنطن بوست" ذكرت قبل اسبوعين تقريباً ان السيد بريمر مستاء من النجف لأنه طلب موعداً فيها ولم يستجب له، وازداد غضبه عندما أعطي الموعد لممثل الأممالمتحدة بسرعة ملحوظة. فما كان من بريمر الا ان بادر الى زيارة النجف التي لم تستقبله بطريقة ملائمة بحسب الصورة التي عكستها الصحافة العربية مراوحة في عرضها بين الحياد وبين الشماتة التي تفوح منها رائحة ما تبقى من يسارية في بعض الاعلام العربي. وقد عنونت صحف الخبر بأن النجف أقفلت أبوابها في وجه بريمر. هنا يرى بعض المراقبين ان التعبير وإن كان فيه شيء من اليسارية التي غالباً ما اتسمت بالمغامرة، الا انه يعني في ما يعني ان النجف أقفلت على ذاتها باباً من ابواب المشاركة الضابطة لقرار الاحتلال القوي والقوى السياسية العراقية مستقبلاً، فالاحتلال لن يعتبر ان مهمته قد انتهت بفضل المقاطعة النجفية ليحمل عصاه على كتفه ويرحل اليوم او غداً، بل لقد عاد بريمر الى بغداد وعجل في تشكيل مجلس الحكم العراقي، كأول مؤسسة سيادية تحت السيادة الاميركية تمهيداً لمؤسسات اخرى تتفاوت فيها جرعة السيادة الاميركية بين حالة وحالة طبقاً للعراقيين في علاقاتهم الداخلية وميلهم الى التعاون والوحدة والتدرج في تحقيق الاستقلال، آخذين في اعتبارهم ان إنجاز هذا الاستقلال بالتمام والكمال مسألة معقدة وطويلة الأمد. ولم يلحظ احد ان تشكيل المجلس قد تم بالتشاور اللازم مع النجف، بل ان إدخال قوى دينية ذات مصداقية نجفية تاريخية وراهنة محمد بحر العلوم وعبدالعزيز الحكيم ليشكل دليلاً على ان الحركة السياسية في العراق استطاعت ان تكون لها نجفها، غاية الأمر انها ليست تامة ولكن نقصانها لن يعطيها أو يبطل مساهماتها، بل الأكثر احتمالاً هو ان يتعطل الطرف او الجزء المستنكف عن المشاركة من الحوزة، اي المرجعية العليا، من دون ان يعني ذلك ان المشاركين عراة من اللباس المرجعي... ولعل دخول حزب الدعوة النجفي النشأة والثقافة السياسية والمرجعية ممثلاً بإثنين من محاوره الثلاثة وشخص ثالث له علاقة تاريخية بالحزب لم تنقطع تماماً، يؤكد ان المجلس او الذين هم وراء تشكيله قد أخذوا في اعتبارهم ان النجف ذات شق مدني على أرضية دينية، فاختاروا ممثلين لحزب الدعوة ليصبح المجلس اكثر سعة وعمقاً في تمثيله للتعدد الشيعي. هل يعني ذلك ان المرجعية النجفية قد وقعت في الايديولوجيا السياسية، أي انها خرجت على خطها الواقعي الذي عبرت عنه اثناء الازمة وبعد الاحتلال وتداعياته بحكمة ملحوظة، فلم تتسرع باعلان المقاومة كيفما اتفق، ورجحت المقاومة المدنية الهادئة، غير المتوترة، آملة بنهاية الاحتلال، مع اخذها في الاعتبار ان المقاومة العشوائية والخروج السريع للاحتلال من العراق، على رغم سيئات حضوره التي لا تنكر، يمكن ان يجر العراق الى كارثة ثالثة، بعد كارثة وجود النظام وكارثة سقوطه على يد الاحتلال، والثالثة عودة النظام البائد اكثر شراسة وحرية في ارتكاب الجرائم الموصوفة، أو ... ما يتوقع لأسباب لا ينكرها احد من عنف عشوائي داخلي يطاول كل المتحدات الاجتماعية الوطنية المؤهلة، بفعل التآكل والتوتير الداخلي المتطاول، لأن تتفكك وتتصادم من دون ان يكون لصراعها الدموي اي ضابط يضبطه. لا تحتاج الحوزة والمرجعية لأحد ليرشدها في قراءتها للمبادئ والقيم الدينية والوطنية التي تحفظ الكرامة والوحدة، ولا تحتاج الى من يرشدها الى ايثار الهدوء العميق في معالجة الامور الميدانية، لكن الحوزة ربما كانت في حاجة الى قراءة متأنية لتاريخ المفاصل الشائكة في حياة الشعوب والأوطان. وعندئذ يتيسر لها ان تقتنع بأنه في حالات الاستعمار او الانتداب او الاحتلال، لا تقوم العلاقة بين المستعمر بالكسر والمستعمر بالفتح على سن واحد، على السلب المطلق او الايجاب المطلق، فالسلب المطلق مغامرة، خصوصاً اذا كانت موازين القوى غير متكافئة وكان الاحتمال الآخر عودة صدام ونظامه الى العراق، اما الايجاب المطلق فهو تفريط بالوطن والمواطنين والماضي والحاضر والمستقبل، تفريط بكل شيء... اذاً فلا بد من مركب من السلب والايجاب، على ان تختلف النسب بين فترة وأخرى، وكما تقدمنا على طريق الاستقلال زادت نسبة الايجاب، لأن العود يكون قد اصبح أشد صلابة ومناعة. وعشية كل استقلال تصل الشعوب، وإن كانت مختلفة، الى الاتفاق على التصعيد في المواجهة حتى النهاية، لأنها تكون قد تبصرت بحالها وبالظروف المستجدة حولها. لقد تمرد الشعب اللبناني على ارادة الاستعمار الفرنسي على رغم كونه في الماضي القريب منقسماً بين مطالب ببقاء الفرنسيين ومطالب برحيلهم. وتمرد الشعب ودولته على أبواب نهاية الحرب الكونية الثانية وشروع التناقضات بين المصالح البريطانية والفرنسية في الظهور الساطع، فاستفاد لبنان في استقلاله من البريطانيين من دون شك كما تقول الوثائق عن دور للجنرال سبيرز. اما الدستور اللبناني فوضعه لبنانيون في فترة الانتداب الفرنسي، وبعده لا قبله كانت الانتخابات، ولم يمر وقت طويل حتى تم تعطيله لفترة بقرار من سلطة الانتداب. لقد وضع الدستور في عهدة المؤسسات السياسية التشريعية خاصة التي أنتجها والتي أحست بضيقه فتململت وأرادت تعديله فألغاه الفرنسي أو عطله، ثم أعاد العمل به فأنتج المؤسسات الدستورية مرة ثانية لتعود هي فتنتجه تدريجاً حتى حققت الاستقلال التام. وما زالت تنتج الدستور وينتجها الى ان أنهت بالدستور الاخير في الطائف حرباً طويلة ومدمرة، وبات لبنان ينتظر تطبيق دستور الطائف ليعدله مجدداً في ضوء التجربة واكتشاف النواقص، وحتى في هذه المرحلة المتقدمة من استقلال لبنان لم تخل عملية تعديل الدستور الواسعة في الطائف من شراكة عربية من دون ان يكون بامكان احد نفي الشراكة الاميركية الفعالة من دون احتلال! مع قبول أوروبي بكل ما حصل ومع تحفظات من اطراف لبنانيين. هل يمكن في سهولة، انتاج مجلس دستوري في الانتخاب المباشر الآن في العراق؟ كم سيكلف ذلك من مال غير موجود ومن دم فائر؟ وهل يمكن تأمين قانونية المجلس المنتخب، أي ان يكون اختياره أميناً ودقيقاً وسليماً وأن يمثل إرادة العراقيين بنسبة مجزية؟ لأن الاطلاق في هذه الحال أمر خيالي في الدول المستقرة اما في الدول القلقة فهو محال. يبدو ان النجف قد وقعت في ما يمكن اعتباره خيالاً سياسياً، لأن المحيطين بها من المستشارين لم يقدموا لها الصورة الدقيقة عن الواقع والتاريخ، ما أدى الى اضعاف المرجعية في لحظة لا تكفي فيها الحشود الجماهيرية المخلصة ولا تغني عن ضرورة انتاج شيء للعراق ليبدأ الدخول في نسيان الماضي الصدامي، مع التسليم الضروري جداً بأن انتاج هذا الامر مع وجود الاحتلال وعدم قرب موعد رحيله، لا بد ان يتم عبر علاقة مركبة مع المحتل، مركبة من السلب والايجاب، من القبول والرفض، من التواصل والقطيعة، من الحوار والسجال، من الخطاب والصمت، من الاستقبال والمشادة مع الزائر، من طرح الحد الأعلى وقبول الحد الأدنى والسعي الدائم لرفع مستوى المطالب. والنجف التي شاركت في قيادة الثورة الدستورية في أوائل القرن، تعلم علم اليقين ان الدستور الذي وضع في ايران أنتج مجلس النواب، ليعود مجلس النواب فيحمل الدستور على عاتقه ويطبقه ويخوض معركة مع الشاه القاجاري الذي رفض التطبيق الخ... اذاً العرش ثم النقش... اي الدستور اولاً مع بقاء حق الاعتراض والاحتجاج على مواده وبنوده، فإن أثمر ذلك كان به، والا فتقوم المؤسسات الدستورية ديموقراطياً على اساس الدستور المرفوض جزئياً، لتعود هذه المؤسسات وعلى اساس ما يتحقق من الاستقلال الكلي او النسبي لتعدل الدستور بارادة عراقية صافية وحصرية. ان عدم استقبال بريمر في النجف أمر جميل من وجهة نظر ثورية! اما من وجهة النظر الواقعية، اي مع وجود الاحتلال وعدم جاهزية العراقيين لمباشرة شؤونهم في الشكل التام وكامل الارادة والقرار المستقل كلياً، فإن عدم القبول باستقبال بريمر غير نافع وربما كان ضاراً. وتشكيل المجلس مع حضور طيف النجف في هذا الوضوح الشديد، ربما كان دليلاً الى ان الضرر قد تحقق، لأن ذلك قد تم وكأنه من وراء ظهر النجف من جهة، ومن داخلها من جهة اخرى. أليس الوقت هو وقت الاحتراف السياسي؟ وهل الاحتراف السياسي هو ضد الدين والحوزة؟ اذاً من أين يأتي الاحتراف السياسي لرجال الدين في ايران؟ وهل المطلوب من الحوزة النجفية ان تحترف السياسة؟ ابداً، بل المطلوب ان تصغي لأهل الحرفة السياسية من ابنائها وأن تحرص على كون فعالياتهم السياسية غير بعيدة عنها مع احتفاظها بحق الاعتراض، خصوصاً ان ابناءها من المتعاطين في الشأن السياسي مطبوعون بها علمياً ودينياً وسلوكياً، غاية الامر ان تجربتهم اختلفت فأهلتهم الى أداء يقع في سياق النجف اذا ما شاءت له ذلك... * كاتب ورجل دين لبناني.