تشيخ النظم السياسية بحكم عامل الزمن، وتترهل الحكومات وفقاً لقانون الطبيعة، ويتساءل الناس هل ذلك هو سبب الحديث المتكرر عن دوران النخبة وتداول السلطة وتغيير القيادات؟. إن هذا التساؤل يذكرنا بعصر ليونيد بريجنيف في الاتحاد السوفياتي السابق خصوصاً في سنواته الأخيرة عندما كان يطل بجثمانه الضخم وتكوينه البشري المرهق وابتسامته التائهة وهو يقف على قمة أحد قطبي المجتمع الدولي وقواه العظمى في عصر الحرب الباردة. وكان الرجل في ذلك الوقت يرصّع صدره بالنياشين اللامعة ويبدو كالهيكل المحنط بينما تجري المياه تحت قدميه وتتدفق الأمواج حوله وتزخر بلاده بأسباب القلق وعوامل التغيير ودوافع الانتقال الى مرحلة مختلفة تماماً كانت تبدو بوادرها في الأفق لمن يستشرفون المستقبل ويعرفون اتجاه الرياح المقبلة، وعندما رحل بريجنيف بالموت الطبيعي - وهو أداة التغيير الوحيدة في النظم الراكدة - خلفه رئيسان باهتان أمضى كل منهما سنة واحدة على قمة السلطة في موسكو تشرنينكو وأندروبوف ثم جاء غورباتشوف ليبدأ في تنفيذ أجندة جديدة دعمها الغرب وباركها البابا يوحنا بولس الثاني حتى انتهى الأمر برمته بانهيار كامل للاتحاد السوفياتي كأيديولوجية ودولة في آن واحد وتفكك إمبراطورية لينين وستالين في شهور قليلة لتظهر من تحت الرماد قوى صاعدة تغير من مجرى حياة الروس بل وتغير الخريطة السياسية للعالم بأسره. ونحن العرب نتذكر أيضاً سليمان الملك عندما جلس مرتكزاً على عصاه وقد فارق الحياة ولكنه ظل كذلك حتى نخر السوس العصا إذ لم يكن هناك حوله من يجرؤ على إيقاظ من حسبوه نائماً! لقد تذكرت هذه المعاني وأنا أستقبل فقيهاً دولياً جليلاً شغل موقعاً دينياً مرموقاً في إحدى العواصم الأوروبية عندما التقاني أخيراً في القاهرة وأعترف أنه هو الذي أيقظ لديّ هاتين الصورتين من التاريخ الحديث والتاريخ القديم وكانتا قابعتين في الذاكرة البشرية النائمة، وهو الذي أغراني بالتأمل في مقارنتها بالوضع العربي الراهن، لذلك فإنه يحسن أن أتجه الآن إلى تناول قضية تجديد النظم العربية ومسألة تغيير الأوضاع القومية من خلال محاور ثلاثة، يبحث الأول في المؤسسات ويدور الثاني حول السياسات بينما يتطرق الثالث الى القيادات. تجديد المؤسسات لكل بلد كيانه الدستوري ونظامه السياسي وسلطاته الأساسية ولكن تبقى هناك دائماً قضية المؤسسات التي يعتمد عليها كل نظام في تسيير حركته وتوجيه سياسته وتحديد رؤيته. والمؤسسات نوعان أولها حكومي وثانيها غير حكومي، ولا شك أن المجتمع المدني المعاصر يستأثر بقدر كبير من المؤسسات العصرية بدءاً من الأحزاب السياسية ومروراً بالنقابات المهنية ووصولاً إلى التجمعات العمالية فضلاً عن الجمعيات الأهلية والتي تكمل في مجموعها الدورة الطبيعية للنظم المعاصرة. وهي قد تبدأ بالبرلمان والقضاء والشرطة فضلاً عن الدور المحوري للقوات المسلحة واختلاطها بالقرار السياسي وإفراز المؤسسة العسكرية لنسبة لا بأس بها من رجال الحكم المعاصرين في عدد من الدول العربية، كما تأتي الجامعات لتمثل هي الأخرى إضافة إيجابية إلى حداثة المجتمع ومستوى عصريته والمقصود من التجديد هنا ليس الخروج على القواعد القانونية أو التنكر للأعراف السياسية أو الانسلاخ عن التقاليد المهنية، ولكنه يعني تعزيز سيادة القانون وتوسيع دائرة المشاركة واستعادة الروح الأصيلة للمهن ذات التأثير في المجتمع بحيث يصبح القاضي رفيع القيمة والمعلم مصدر ضوء والطبيب شعاع رحمة لأن أسوأ ما نعاني منه في كثير من أقطارنا العربية هو ذلك الانخفاض الواضح في مستوى جودة الوحدة البشرية التي نسميها "انساناً" فلقد قل إنتاجه وكثر حديثه وغابت رؤيته وأصبح عبئاً تاريخياً على مجتمع يعول مواطنيه من دون عطاء من أفراده أو انتماء لدى ابنائه. مراجعة السياسات التعليم سياسة والصحة سياسة والثقافة سياسة والتحول الاقتصادي سياسة، بل إن الإصلاح السياسي والدستوري ايضاً هما نوع من السياسة لأنها تعني كلها أسلوباً في التعامل مع مفردات الحياة على المدى القصير والمدى الطويل في المجتمعات العربية المختلفة، بل إن السياسة التشريعية هي جزء لا ينفصل عن روح التغيير وآلياته. فالسياسات هنا هي ذات معنى واسع يحتوي في إطاره الاستراتيجيات بعيدة المدى والاجراءات محدودة التأثير ولا يمكن الفصل بين تطوير المؤسسات وتحديث السياسات لأن الإطار المؤسسي يعتمد بالضرورة على أساس فلسفي والأخير ينعكس في صورة حزمة من القرارات تعكس الروح الجديدة والرؤى المتطورة وفقاً للمستجدات التي تحيط بها والتحديات التي تواجهنا والمشكلات التي تنتظرنا. ونحن نظن عن يقين أن الذين اهتموا بإقامة المؤسسات الدستورية من دون وجود سياسات رشيدة أحالوا الأمر في النهاية الى ديكور سياسي ونظام شكلي لا جدوى منه ولا طائل من ورائه واتسمت شخصية الحكم عندهم بالمظهرية الكاملة والاستعراض "الديماجوجي" الذي تدفع الجماهير فاتورة نفقاته في لحظات الصحوة بعد سنوات الحلم وغيبة الوعي والغوص في مستنقع الشعارات الجوفاء. تغيير القيادات وهنا نأتي إلى أكثر مكونات المستقبل العربي حساسية وأشدها تعقيداً. وأبادر فأسجل بوضوح أن تغيير القيادات ليس هدفاً في حد ذاته لأنه يمكن ان يتبدل الأفراد في ظل ركود مؤسسي وجمود سياسي فيصبح الأمر أقرب الى العبث منه الى التغيير الحقيقي. كما أنني اقول بجلاء ووضوح ايضاً إن معظم النظم العربية قابلة للتغيير والاصلاح ذاتياً والتجديد والتطوير داخلياً فنحن لا نستهدف نظماً بعينها ولا نعادي حكاماً بذواتهم ولكننا نتطلع في مستقبل عالمنا العربي الى ملكيات دستورية أو جمهوريات عصرية تحترم فيها إرادة الفرد وتعلو قيمته وتتعزز مكانته وعندما نتحدث عن تداول السلطة فإننا نعني أن الأبدية لله وحده وأن الذين استأثروا بالمواقع لعشرات السنين واستمرؤوا الحكم لعقود عدة لا بد أن يفتر حماسهم وأن تشيخ عقولهم وأن تترهل أفكارهم إلا نفر قليل منهم هم أولئك القادرون على مواكبة العصر والتعامل مع شفرته وفك رموزها واستشراف المستقبل خصوصاً اذا استقر لديهم إيمان عميق بأن الأمة هي مصدر السلطات وأن الشعوب صاحبة القرار وأن المستقبل في النهاية هو للإنسان خليفة الله في الأرض. وقد يكون من المناسب أن نلفت النظر إلى أن مسألة تغيير القيادات وتبادل السلطات هي من أخطر الأمور على عملية الإصلاح الشامل التي ترتطم بكم هائل من المخاوف والمحاذير وركام ضخم من المعارضة والتعطيل إلى حد محاولة إجهاض العملية بكاملها إما باحتواء شعاراتها وخطف أفكارها أو بمصادرة الحركة نحوها تحت ذرائع متعددة ليس أولها التمسك بالهوية وليس آخرها الدفاع عن الخصوصية!. ألم أقل إنها مسألة شائكة عندما يناط الإصلاح بمن يتجه مفهومه نحوهم وتنصرف آثارهم اليهم، إن الأمر يحتاج الى رؤية شجاعة وموضوعية نادرة وقدرة على تغليب المصالح الوطنية على مصالح النظم وشهوة الحكم. إنني لا أحسب أن حكم بريجنيف الرمادي في أواخر عصره كان يمكن أن يستمر، ولا أظن أن رحيل "سليمان الحكيم" الذي خاطب الطيور، وأمر الجن كان يمكن أن يدوم، فالإنسان في النهاية هو إبن ظروفه ونتاج عصره، ونحن العرب أصحاب حضارة معلمة ولغة ملهمة ولا ينقصنا، إلا أن نؤمن بقدراتنا ونحسن توظيف مواردنا وندفع بالدماء الجديدة في شرايين الحياة السياسية لدينا لأن حيوية النظم هي الضمان الوحيد لكي لا نتذكر السنوات الكالحة من نهاية عصر بريجنيف كما عكستها مرآة الحياة الغربية أو نشير الى خاتمة سليمان الذي قضى جالساً والدنيا حوله تدور مثلما صورته روايتنا الشرقية. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.