اذا جاز لي ان اتحدث عن تجربتي وانطباعاتي الخاصة عن اليابان والتجربة اليابانية في ضوء دراستي لها وتوقعاتي في شأنها منذ مطلع الثمانينات كما تبين ذلك في كتاب العالم والعرب سنة 2000 والذي احتلت الظاهرة اليابانية اوسع حيز منه فيجب ان اعترف بأنني اصبت بخيبة امل من بعض المسلكيات والمواقف اليابانية في السنوات الاخيرة في منطقة الخليج بخاصة وعلى الاخص منذ الغزو العراقي لدولة الكويت في 2 آب اغسطس 1990، حيث كانت الفجوة واسعة بين ما عرفته عن اليابان من قوة عزيمة وتصميم وثبات في تاريخها البعيد والقريب، وبين طبيعة المواقف التكتيكية المفاجئة التي وقفتها المؤسسات والشركات والبنوك اليابانية منذ اول يوم من ايام ذلك الغزو حيث انسحب اليابانيون انسحاباً كاملاً وغير مبرر من معظم مواقعهم في الخليج في صورة عبرت عن الخوف وعدم الثقة بالنفس. صحيح ان اليابان لا تمتلك القوات العسكرية الكافية لحماية مواطنيها في الخليج وفي العالم، وكان ذلك هو تبرير الدوائر اليابانية لهذا التصرف، الا ان ذلك لا يبرر هذا "الجلاء" الياباني البشري العاجل عن الخليج يوم 2 آب 1990 في ضوء الموقف الدولي العام، والوجود الدولي في المنطقة والمصالح اليابانية بالذات المترسخة فيها. ويذهب نقاد اليابان الى القول: اذا كانت اليابان قد انسحبت بهذه الصورة لدى اول اختبار من منطقة تمثل مصدرها الاساسي لإمدادات الطاقة وهي القوة الصناعية الكبرى، فماذا ينتظر منها ان تفعل في مناطق اقل اهمية؟ ومن الجلي ان هذا التصرف ينتمي الى مرحلة وعقلية الاحتماء الياباني بالمظلة الاستراتيجية الاميركية مع الاستمرار في جني المزايا والارباح من دون التبعات والتضحيات، الا ان ذلك لم يعد مقبولاً من اليابان في عالم ما بعد الحرب الباردة. ومن ناحية اخرى، يتضح من التجربة ان الدوائر اليابانية عموماً تبدي تردداً شديداً في دعم المؤسسات الاجتماعية والثقافية في البلدان العربية المحتاجة الى الدعم بما لا يتناسب مع قدرات اليابان المالية والاقتصادية والتكنولوجية، هذا مع الترحيب ببعض المبادرات اليابانية الايجابية في هذا الصدد حيال دول عربية كمصر والاردن وهي مبادرات يمكن ان تشمل عُمان والبحرين اللتين لا تتمتعان بالوفرة المالية التي تشتهر بها دول مجلس التعاون الاخرى. غير ان ذلك لا ينفي وجود تباطؤ وحذر يابانيين شديدين في "دراسة" المشاريع المشتركة بين اليابان وشركائها الخليجيين والعرب الآخرين، الى حد يؤدي في احيان كثيرة الى صرف النظر عن تنفيذ تلك المشاريع كما حدث على سبيل المثال في المفاوضات اليابانية السعودية في شأن مشاريع النفط في المنطقة المحايدة بين السعودية والكويت في وقت سابق. ويجد كثيرون صعوبة في التفاهم العملي المباشر مع "المفاوض" الياباني الذي يبدي غموضاً وتردداً في مواقفه بحيث لا يمكن التوصل معه الى نقاط عملية محددة يمكن الانطلاق منها الى المزيد من التفاهم والعمل المشترك. ويخيل للبعض ان المفاوض الياباني والفرد الياباني عموماً في ظل العقلية المركنتالية السائدة في اليابان حالياً يريد ان يأخذ كل شيء من دون ان يعطي شيئاً وذلك ما يشتكي منه الاميركيون والاوروبيون ايضاً في مفاوضاتهم التجارية مع اليابان. غير ان التأمل العميق في طبيعة الحضارة اليابانية يكشف ان المشكلة لا تنحصر في سيطرة هذه العقلية التجارية المركنتالية ذات الافق الضيق على السلوك الياباني، وان كانت هي المظهر الاكثر بروزاً له في الوقت الحاضر. فإشكالية التعاطي بين الياباني وغيره تخضع لاعتبارات اشد تعقيداً من ذلك. فاليابان هي اكثر الامم انكفاء على النفس واتجاهاً الى الداخل و"الباطن" واشدها عزوفاً عن التفاعل المفتوح مع الآخرين على العكس من الاميركيين والعرب على سبيل المثال. وقد "اخذت" اليابان الكثير من الحضارة الصينية قديماً ومن الحضارة الاوروبية حديثاً وتتلمذت على الحضارتين من دون ان تهتم بأن "تعطي" من حضارتها وثقافتها شيئاً للآخرين. ان اليابان لا يحركها ولا يعنيها ان تنشر "قيمها" في العالم. انها امة "غير رسالية" ان صح التعبير اذا قسناها بالعرب او بالفرنسيين الذين اهتموا بنشر لغتهم وثقافتهم وقيمهم الحضارية في انحاء المعمورة. وكان ذلك حافزاً اساسياً في تحركهم على الصعيد الخارجي وتعاطيهم مع الآخرين في معظم عصور تاريخهم. اما الياباني فيشعر، بنوع من الارستقراطية المتعالية التي لا تخلو من نزعة التوحد والميل الى العزلة، ان حضارته اليابانية شيء يخصه ولا حق للآخرين فيها، وان تعامله مع الآخرين يجب ان ينطلق اما من تفوقه العسكري كما كان سلوك اليابان قبل الحرب الثانية واما من تفوقه التقني والتجاري كما هي الحال الآن. وفي الحالتين فليس ثمة مجال للاخذ والرد والتعاطي المتفتح على قدم المساواة مع الآخرين. فالياباني المتفوق "يفرض" مواقفه حرباً ام سلماً، سلاحاً ام تجارة بنوع من "العنف" الظاهر او الخفي. واذا كان العنف متوقعاً في الحرب فإنه اكثر مدعاة للتساؤل في التعامل التجاري "السلمي". ولا يستطيع المرء ادراك حقيقة هذا "العنف" الياباني في التعامل، عسكرياً كان ام تجارياً، الا اذا نظر في طبيعة المشاعر التي يكنها جيران اليابان لها عبر التاريخ، خصوصاً في التاريخ الحديث، حيث كانت تجربة الاحتكاك المباشر بين اليابانوالصين، من ناحية وبين اليابان وكوريا من ناحية اخرى نموذجاً لهذا العنف الياباني مع الآخرين، الذي ما زالت اليابان الديموقراطية المعاصرة "تعتذر" عنه لاولئك الجيران كلما جاءت مناسبة تذكر بتلك الجروح القديمة التي لم تندمل، بعد. وبما يتعدى رواسب هذه العلاقة، فإن الانتصار الياباني المدهش على القوات الروسية عام 1905 اعطى الامل لجميع "الشرقيين" بامكان الانتصار على قوة غربية في ذروة تغلب الغرب. واذا كانت الصين من الضخامة بحيث لم تتمكن اليابان من اختراقها بصورة كلية على ما احدثته في ذاكرتها الجماعية من جرح، فإن كوريا الاصغر حجماً ما زالت تمثل ذاكرة حية تختزن ذكريات العنف الياباني في متاحفها وقصورها وشوارعها ومدنها وقراها بصورة يندهش لها ويستغربها الزائر الاجنبي المحايد، مثلما حدث لكاتب هذه الدراسة، ويكفي ان تمضي اول ساعة من زيارتك الاولى لسيول، عاصمة كوريا الجنوبية، لتكتشف بسهولة لا تخلو من مفاجأة مدى فداحة تأثير العنف الياباني في النفسية الكورية. واذا كان ذلك "العنف" الياباني المباشر قد اختفى تحت رداء رجل الاعمال الياباني المهذب، فإن العالم ما زال يستشعر مثل هذا "العنف" المبطن في "المبارزات" التجارية اليابانية التي تصر على "اخذ" اقصى قدر ممكن مقابل "اعطاء" اقل قدر ممكن او اعطاء لا شيء ان امكنها ذلك سواء في بلدان العالم الثالث عالم الجنوب التي تستفزها المعاملات التجارية اليابانية، او بلدان العالم الاول عالم الشمال التي تستشعر الاستفزاز ذاته في التعامل التجاري بطرق اخرى. وكما اشرت فإن هذا "الانكفاء على الذات وهذه "الانوية" لا تنحصر في التعاطي التجاري، وانما تشمل،التعاطي الحضاري والثقافي وتلك مسألة لا بد من ان توليها اليابان المعاصرة اقصى قدر من الاهتمام ومن القدرة على التخطي والتجاوز في عالم لم يعد يعترف بالحدود الفاصلة بين الحضارات والثقافات، ولم تعد ثمة امكان لعقيدة "سرية" باطنية او لحضارة "شعب مختار"، اياً كان، مع تعاظم موجات العولمة التي ستكون اليابان في الواقع ابرز المستفيدين منها. وتمثل اشكالية "التعاطي" والتواصل اللغوي بين الياباني وغير الياباني نموذجاً عملياً "واضحاً" لمثل هذا الانكفاء وعدم القدرة على "التواصل" تواصلاً فعالاً مع الآخرين. وبقدر ما يبرع الياباني في استخدام انامله في الصناعة والآلة والتكنولوجيا والفنون الكلاسيكية الدقيقة، ويبرع في استخدام عقله الذكي في التفكير والتخطيط والاختراع، فإن قدرته اللغوية ليست الافضل بين قدراته، بل قد تكون اكثرها تواضعاً. وعندما يتعلق الامر بلغة اجنبية فإن الامر يصبح مشكلة حقيقية للياباني في تحقيق التواصل مع الآخرين وايصال المطلوب اليهم، على رغم استيعاب العقل الياباني لأعمق مضامين العلوم الحديثة، باستثناء الفلسفة في سياقها الاغريقي والاوروبي الحديث ... وربما ساعدته هذه المفارقة على انجاز تقدمه التقني العملي من دون تنظيرات فلسفية ما زال ينشغل بها المثقفون العرب!. وتمثل اللغة اليابانية، من جانب آخر، عائقاً للاجانب في تواصلهم مع اليابانيين الذين لا يجيدون الا لغتهم، وهم الغالبية الساحقة، ومنهم علماء ومثقفون كبار لم يستطيعوا الخروج من بوتقتهم اللغوية الخاصة بهم والتي يبدو انها تختلف نحواً وصرفاً وكتابة عن كثير من اللغات الاخرى. يطلق بعض الاجانب على اللغة اليابانية "لغة ابليس" بسبب الصعوبة الشديدة التي يعانونها في تعلمها. وصدف ان تعرفت الى ديبلوماسي ياباني كبير وفاضل يمثل بلاده في عاصمة خليجية وكان حريصاً على التحدث باللغة العربية الفصحى التي تعلمها بعناية. وسررت لحرص هذا الديبلوماسي الياباني على التحدث معنا نحن العرب بالعربية، بينما يتجنب الديبلوماسيون الغربيون ذلك ويصرون على التحدث بالانكليزية وان اجادوا العربية نظراً لتعاليهم اللغوي والثقافي النابع من تعاليهم "الاستعماري" القديم. وان اخذ الديبلوماسيون الفرنسيون يتحدثون العربية مع نظرائهم العرب، بفضل سياسات الرئيس شيراك القائمة على اختيار "مستعربين" فرنسيين متفهمين للقضايا العربية. غير ان البطء الشديد، الذي كان يتحدث به ذلك الديبلوماسي الياباني معي بالعربية جعلني بعد جلسات عدة افقد الرغبة في التحدث معه لأن صبري صار ينفذ وصدري يضيق وأنا استمع اليه يبدأ الجملة ويأخذ زمناً طويلاً من التفكير والتوقف الى ان يصل الى نهايتها مهما كانت بسيطة؟... ولم تكن المشكلة تتمثل في عدم اجادته اللغة العربية. فقد كان الرجل، والحق يقال، يجيدها وينطق كلماتها بوضوح. ولكنني شعرت بأن المشكلة كانت اعمق من ذلك وتتعلق بجوهر التواصل اللغوي، المرتبط بالقدرة على التواصل النفسي، الفكري في الوقت ذاته. ويبدو انها مشكلة الياباني بأي لغة اجنبية تحدث، وان كان من الانصاف الاشارة الى ان الجيل الجديد من اليابانيين صار اكثر اجادة للغات الاخرى، وبالتالي اكثر تحرراً من العقدة التي نشير اليها لدى الاجيال السابقة. وفي حالة اخرى منفصلة عن تجربتي الشخصية هذه، اصيب الجمهور البريطاني الكبير الذي حضر للاستماع الى اديب اليابان الفائز بجائزة نوبل للآداب، في لندن، لعام 1994، بخيبة امل وفقد اهتمامه بمتابعته بعدما اخذ يتكلم بلغة انكليزية ثقيلة ومفككة، قطعت امكان التواصل مع الحضور وقضت على امكان التفاعل الانساني العميق الذي كان منتظراً في موقف كهذا بين جمهور غربي مثقف وبين اديب ياباني استطاع الفوز بجائزة نوبل لكنه لم يستطع التواصل مع جمهور غير ياباني في مناسبة واحدة!. وايراد بعض هذه الشواهد لا يمثل "نقداً" لليابانيين بقدر ما يمثل محاولة "توصيف" موضوعي لمظاهر في ثقافتهم وسلوكهم مع الآخرين. ولكل شعب بطبيعة الحال عوائده ونواقصه اللغوية. وطالما تعرض العرب للنقد بسبب ميولهم اللغوية "المعاكسة" النازعة الى الخطابة والبلاغة المسرفة والعبارات الانشائية الرنانة. غير ان اليابان، وهي مقدمة على دور احدى القوى العظمى في العالم لا بد من انها ستستشعر الحاجة الى مزيد من القدرة على التواصل والتفاعل مع امم العالم الاخرى ثقافياً ونفسياً وحضارياً، وهذا ما يبدو ان القوات اليابانية استشعرت الحاجة اليه في منطقة السماوة العراقية! وسيكون التقدم في حل الاشكال والتواصل اللغوي الذي يعاني منه اليابانيون عموماً في مقدم شروط هذا الانفتاح القيادي على العالم. وما اشد حرج "القائد" الذي لا يحسن التخاطب مع الآخرين! وكما دعوناهم سابقاً، فإن الامر سيتطلب ايجاد توازن بين لغة الارقام الحسابية والتجارية التي تعودوا على مخاطبة العالم بها، ولغة المشاعر والافكار الانسانية التي تستبطنها ثقافتهم وحضارتهم في شكل غني لكنها لم تتفتح بها، مع الشمس المشرقة في بلادهم، على اخوانهم في الانسانية. وذلك سيكون في مقدم متطلبات تحول اليابان الى جوهر القوة العظمى اذا ارادت. * مفكر بحريني.