التفكير في "خراب الثقافة العراقية"، كان محور محاضرة دعا اليها "المركز الثقافي العربي السويسري" قبل ايام وبدت لافتة، لاسباب عدة، أبرزها ان المشهد العراقي الراهن بات يشهد شيوعاً غير مسبوق للحس النقدي، وهو حس بدأ يعلن عن نفسه بقوة في التظاهرات والنشاطات الثقافية منذ انهيار الديكتاتورية في العراق. ولعلها لم تكن مصادفة ان تعمد مؤسسات معنية بالثقافة الى تنظيم ندوات تنصب في المهمة ذاتها: نقد ثقافة الماضي التي ارتبطت ب"دولة المؤسسة السرية". المهمة صعبة للغاية! هذا ما يراه الكثيرون، والسبب أن نقداً لمنظومة ثقافية ما لن يكون ذا جدوى من دون الانعتاق من تلك المنظومة. الشاعر عبد الزهرة زكي حاول جاهداً الانعتاق من منظومة الثقافة العراقية مركزاً في ورقته النقدية "من ثقافة الخراب الى بناء الثقافة" على نقد اهم مرتكزاتها وهو ارتباط الثقافي بالسياسي، محملاً السياسات الشمولية التي حكمت البلاد طوال أكثر من نصف قرن مسؤولية ما سماه ب"الانقطاعات التي حدثت في الثقافة العراقية" حيث "تحولت لحظات التأسيس الثقافي التي حصلت في مطلع القرن العشرين الى لحظات طافية في سديم التاريخ السياسي، وفي شكل لم يسمح لها بإحداث اتجاهات أو حركات فكرية". الورقة النقدية التي القاها صاحب "اليد تكتشف" ركزت أيضاً على انجاز مهمة تقويض تلك المرتكزات التي تأسست عليها الثقافة العراقية في حقبة الدولة العسكريتارية، والمقصود هنا تحول هذه الثقافة الى "ثقافة افراد" يظهرون ثم يختفون من دون ان تتشكل حركة ثقافية بالمفهوم العضوي، وهو ما أدى، بالضرورة، الى "اختفاء قطاعات معرفية وابداعية كاملة عن العمل الثقافي العراقي". وأشار الى "افتقاد الثقافة الفيلسوف والمخرج السينمائي والمؤلف الموسيقي" امام انتعاش "الفنون الفردية كمحاولة من المثقفين لتفادي غياب العمل الجماعي للثقافة والفنون". المسألة مع الناقد حيدر سعيد إختلفت بعض الشيء، فمحاضرته "نوستالجيا لعراق قادم" اتخذت أبعاداً معرفية ركزت على محاولة ايضاح العلاقة المعقدة بين المجتمع العراقي، بصفته نموذجاً لبقية المجتمعات العربية، و"الآخر" يحضر، في ورقة حيدر سعيد، في شكل رمز صادم هو عبارة عن "دبابات" اميركية تمر قرب تمثال محمد سعيد الحبوبي، الشاعر الذي ذهب الى الجنوب لتحريض العشائر على مقاومة الانكليز، وتمر الدبابات نفسها امام "نصب الحرية" ل"جواد سليم"، هذا النصب الذي ينتصب فيه رجل عسكري ثائر غدا، في ما بعد، رمزاً ل"عسكريتارية الدولة" كما يرى الناقد. قدم حيدر سعيد، فرضيات اصيلة عن هذه الاشكالية العميقة، أشكالية العلاقة التي يمكن ان تربط بين مجتمع شرقي محكوم بنظم استبدادية و"آخر" محكوم بنظرة ايديولوجية جديدة يدعوها البعض بالعولمة، فيما يصر البعض على وصفها ب"الاستعمار الجديد". ويفترض حيدر سعيد الذي كان أحد المثقفين العراقيين الجادين بين جيل خرج من معطف الحرب والحصار، ان العراق إزاء تكون ملامح دولة جديدة يدعوها ب"الدولة اللاوطنية" وأن مفاهيم هذه الدولة تختلف تمام الاختلاف عن المفاهيم التي ارتبطت بالدولة ابان حقبة الثورات ودعوات التحرر الوطني.