الأنهار التي تغذّي الفكر العربي قليلة جدًّا، وجريانها يبدو محدودًا. وها هو أحد الأنهار المعرفية الكبرى يجف برحيل الجزائري «محمد أركون» على بعد مسافة قصيرة من رحيل عدد من المفكّرين العرب الذين تساقطوا كحبات الكرز. ويأتي رحيله عن دنيانا الفانية بعد رحلة عامرة بالعطاء الإنساني المثير للكثير من الجدل.. ليكمل مسلسل جفاف الأنهار المعرفية المتدفقة، بعد أن رحل قبله المغربي محمد عابد الجابري والمصري نصر حامد أبوزيد. وبوفاتهم تكون الثقافة العربية فقدت أعلامها الكبار واحدًا تلو الآخر. الكثير منا لربما أنه يتخذ موقف الضد أو يختلف على أقل تقدير مع: أركون والجابري والبغدادي وأبوزيد ومن قبلهم ابن حزم وابن رشد وابن عربي والكواكبي والتوحيدي بل حتى مصطفى محمود وأبوحامد الغزالي شهد طرحهم كثيرًا من الشد والجذب والاختلاف.. ونحن هنا سنستعير مقولات متزنة في التعاطي مع هذا الاختلاف. ويحضرني هنا للشيخ علي الطنطاوي مقولة جميلة سمعتها منه في موقفه من كتاب “طوق الحمامة” عندما قال من أراد أن يقرأه كقطعة أدبية فعليه به فهو في هذا المجال “مرجعية أدبية يرتهن إليها”... وهو ذات الرأي الذي أطلقه “المفكر الكبير سلمان العودة عندما قال بعد وفاة الجابري إن الإنسان ليس جمادًا ولا حجرًا ينشأ ويفنى بتغيرات طفيفة والفكر أي فكر يتمرحل وينمو ويمر بمنعرجات عدة وليس من الحكمة أن نتخذ موقف الضد لمجرد موقف أو نتاج بعينه أو في مرحلة عمرية معينة”. وبعيدًا عن موافقة “أركون وغيره” فيما خلصوا إليه من نتائج وما أفاءوا به علينا من نتاج فإنه من المهم أن نركز على أثر باقٍ لهم.. فهؤلاء أسسوا لطرائق تفكير ورسموا خطوطًا عريضة لما يمكن فعله من أجل الغد الذي نترقبه. على أرض الواقع يظل أركون واحدًا من أبرز المفكّرين الإسلاميين في العصر الحديث الذين كانوا علامات كبرى -حتى وإن اختلفنا معهم في بعض أو كثير من الجزئيات-، ويكفي أنه أحد أبرز روّاد الدعوة إلى الحوار بين الأديان. وقد نصّب نفسه واحدا من ألمع أساتذة تاريخ الفكر الإسلامي وأحد روّاد التنوير الإسلامي في العصر الحديث. وبتأمل سيرته التي تمثّل أنموذجًا في الدأب والعمل الجاد والجرأة في الطرح سنجد أركون أرتكز على إرث معرفي هائل كان نتاجا لانفتاحه الفكري والمعرفي على مختلف النتاجات المعرفية في مختلف حقول المعرفة الإنسانية حتى وإن أتاحت له الحياة في الغرب فرصة المعايشة لكثير من المعارف والنظريات والمناهج النقدية وشروطها وظروف نشأتها، وهذا ما أتاح له فرصة الانفتاح المعرفي غير المشروط على مختلف المعارف. هذا الإرث الهائل من المعرفة أهّل أركون وبجدارة أن يكون اسمًا حاضرًا على المستوى العالمي وأستاذًا للفكر الإسلامي بالسوربون؛ بل ذهب لأبعد من ذلك وطور اختصاصًا يدرسه هو «الإسلاميات التطبيقية». يحسب لأركون أنه من القلائل الذين تشعر أنهم حاولوا جادين أن يجعلوا الصرامة المنهجية والبحث العلمي مرتهنًا وفصلًا في الخطاب المختلف عليه؛ ورغم هذا شعرت وأنا أتابعه في -إضاءات- مع تركي الدخيل، وفي إحدى محاضراته بالكويت أنه واحد من القلائل الذين يحاولون جهدهم «جعل المعرفة شأنا شعبيًا ومفهومًا من الكل رغم الوجبات المعرفية الثقيلة التي يشتغل عليها». تلحظ هذا بعمق وهو يتحدث عن المعرفة الإنسانية وأهمية إعلاء شأنها بأن يتم النظر لنتاج كل البشر دون استثناء وأن نحاول جاهدين جعل «التأمل والتفكير مشتركا لكل الناس وعادة حياتية يمارسها الكل»، وأن «نوسع المعرفة ونعمق العلمية لتضييق المساحات أمام نشوء الخرافات والأساطير»، وألا تقتصر المراجعات والتأمل والحوارات الناضجة على «النخبة»، مع ضرورة التركيز على أهمية المساءلة وثقافة إثارة الأسئلة كمدخل نحو الفهم الواعي. وهذا منهج منطقي جدًّا وبدهي؛ بل هو غاية لا تعارضها الأديان بل تدعو إليها وتجعل منها عبادة متى تأدبت مع الخالق. أركون كان بهذا التوجه يحفر في بنية العقل الإسلامي؛ لكنه كان يحفر بأزميل حاد وبصرامة لا تعترف سوى بالعلمية والمنهجية، وقد يكون هذا ما أخذ عليه، وإن بدا في لقاءاته ومحاضراته في الخليج على وجه التحديد أقلّ صرامة، وكان ظهوره يراعي كثيرًا الرؤية السائدة رغم موقفه النقدي الذي يرفع فيه القدسية عن كل ما حولنا. يرتهن أركون في نقده المعرفي على أدوات متعددة تستحضر الشرط التاريخي وتستعين بأدوات التحليل والتفكيك والتأويل وسخر معارفه الغنية بعلوم اللسانيات والأنسنة والإنثروبولوجيا وعلم النفس ومناهجه واستفادته من العلوم الحديثة ومنتجاتها وأدواتها أعانته على بناء مناهجه النقدية وتأملاته الفكرية ومكنته من الحفر عميقًا في بنية الفكر الإسلامي، الأمر الذي جعل آراءه وأطروحاته ومحاضراته تغوص في بحر من المعارف وتحظى بكثير من الجدل، وهو بهذه الممارسة يرسم منهجًا وطريقة تصلح مرتكزًا لكل باحث. أركون في مختلف أطروحاته لا يغفل أي علم أو دين أو معرفة إنسانية، فهو ممن يحترمون المعرفة الإنسانية على اختلاف مصادرها، كما يستحضر الشروط المختلفة سيسولوجيا وأنثروبولوجيا بمختلف أدواتها في تأملاته ومراجعاته النقدية، وهذا الأمر غير متعارف عليه في “مراحل سابقة قبل أركون الأمر الذي جعل من فكره يبدو غريبًا وشروطه النقدية تبدو شديدة الجرأة”. عُرف عن أركون نقده للعقل الإسلامي القائم حاليًا، وكان يدعو إلى بناء منظومة من المراجعات الفكرية لكل ما هو قائم. رفض أركون «شرط التقديس» وكان من أجل الوصول إلى معرفة صحيحة لا تتأثر بمؤثرات قد تكون مضللة من وجهة نظره؛ ومثل هذا الطرح مدعاة للتأمل والمراجعة حاله حال أي منتج آخر دعا لمراجعته ومطارحته فكريًّا؛ بشرط أن تكون المراجعة مبنية على أسس منهجية ووفق معايير علمية وعقلية وأخلاقية. والحل نفسه ينطبق على تأكيد أركون أن القدسية للنصوص التأويلية خطأ تاريخي ومنهجي.. ودعواته إلى مراجعة كل التأويلات باستخدام أدوات تتسم بكونها تجمع بين «المنهجية والحداثة» وتفيد من الفكر الإنساني والمعرفة الإنسانية بوجه العموم فكل هذه الأطروحات هي ليست أقوالًا تحتم علينا قبولها كما قال بها «أركون». ولعل الكم الكبير من الأطروحات والبحوث الكثيرة والمقالات الناقدة التي شرح فيها بنية التخلف وأسبابها وكيفية الانعتاق من أسرها، مستعينًا في ذلك بالتحليل والتأويل والتفكيك مستنجدًا بالشروط التاريخية والإنثربولوجية والسيسولوجية وأدواتها ومختلف المعارف الإنسانية، ولا يتورع في استخدام مناهج حديثة وقديمة ومن مختلف المعارف في رحلة البحث والتأمل والمراجعات الفكرية، التي طرقها لا تمثّل سوى لبنة لممارسة أعمق تنطلق من الاشتغال المنهجي على الطرح الذي قال به والمعرفة التي أنتجها والرؤية التي خلُص إليها وبهذا فهو يقدّم للعقل العربي خدمة عظيمة، فهو يؤسس لانفتاح معرفي والإعلاء من شأن النقد العقلاني المكتمل الشروط وبناء مفاهيم تُعين على الفهم وتوصل إليه وحياته الفكرية تبدو لبنة صلبة لممارسة تدعو إلى الشغف بالنقد والمراجعة والتأملات المنفتحة على كل العلوم والبيئات والأسماء الفكرية والفلسفية من مختلف العصور والأديان والحضارات الإنسانية وهذه الفلسفات التي ينتجها بممارساته هي أهم مما أنتجه فعليًا. ورغم أن لأركون محاولات كثيرة لتأسيس منظومة معرفية وثقافية تستلهم رؤاه ومناهجه النقدية في بعض الدول وإلقاءه كمًّا كبيرًا من المحاضرات، وطرحه عددًا كبيرًا من المراجعات الفكرية، ودعوته إلى شيوع ثقافة المراجعة الفكرية وعدم قصرها على فئة معينة من الناس منطلق تؤكد رسوخ قيمة أخلاقية ومعرفية ورؤيوية يؤمن بها أركون تقوم على احترام شديد للعامل المعرفي، وتؤكد على إسهام جميع الناس في إثرائها. وهذا التوجه هو من وجهة نظري أهم ما تركه لنا وما خلفه من إرث معرفي وفكري الأمة اليوم في أمس الحاجة إليه. وتأتي دعوات أركون المتكررة إلى «تدريس علوم الأنسنة والفلسفة واللسانيات وعلوم الأنثروبولوجي ومناهج التحليل النفسي واسقاطات اللاوعي وتفسيراته» انطلاقًا من قناعات مترسخة لديه تهدف إلى بناء معرفة أكثر ثراء وبناء عقلية موسوعية منفتحة قادرة على الفهم والتأويل والتعاطي مع الحياة وهذه المنعطفات والمحطات التي عاشها أركون هي “مرتكزات صلبة” لبناء الغد المعرفي العربي. وهذه المنعرجات لا تقل أهمية -بأي حال من الأحوال- عمّا تركه من نتاج مختلف عليه ومن إرث معرفي مدوّن قابل للمراجعة والتأمل؛ بل إن الأهم والمعترك الحقيقي للأمة هو كيفية العمل على بناء منظومة فكرية تفيُد من رؤية وممارسات هذا الجيل، حتى وإن اختلفنا مع الطرح والنتاج والنتيجة التي خلصوا إليها.